المصالحة الوطنية وآفاق نجاحها



علينا قبل الخوض في هذه المقالة ، طرح سؤالين في غاية الاهمية، حول "المصالحة الوطنية" التي استجد الحديث عنها هذه الايام ..

أولهما : حول اذا ما كانت القوى السياسية الحاكمة اليوم لها مصلحة حقيقية في البدء بحوار جدي لبناء الارضية المناسبة لانطلاق قطار المصالحة الوطنية ووصوله الى محطته الاخيرة ؟ هذا القطار الذي فشل مرّات عدة لليوم في تجاوز الامتار الاولى من محطته على الرغم من المؤتمرات العديدة و المبالغ الكبيرة التي صرفت عليه، حتى ان بعض هذه المؤتمرات انعقد في عواصم بعيدة عن المحطة الرئيسية " بغداد" ومن هذه العواصم " هلسنكي" الفنلنديةّ !!.

وثانيهما : ان كانت القوى التي ارتكبت الجرائم بحق شعبنا وهي التي يجب ان تكون ضمن مشهد المصالحة قادرة كي تنهي حالة عدم الثقة بين المكونات العراقية على الاعتراف بجرائمها وذنبها ومساهمتها في ان تكون اوضاع البلد كما هي عليه الان؟. ومن ضمن هذه القوى طبعا الميليشيات الطائفية التي يجب تفكيكها بقرار سياسي واحتواء اعضائها في المجالات المدنية دون العسكرية، على ان تكون هناك خطوات سياسية واقتصادية مدروسة لجذب اكبر عدد ممكن من التشكيلات الميليشياوية والقوى والكيانات السياسية التي من الممكن الاتفاق معها لعزلها عن "البعث"، الذي يجب ان يكون كحزب وليس كأفراد "من الذين لم تتلطخ اياديهم بدماء شعبنا" بعيدا جدا عن أي مؤتمر للمصالحة الوطنية ليس لانه لم يعترف لليوم بجرائمه الكبيرة ضد شعبنا ووطننا والمنطقة فحسب، بل لتعاونه الوثيق مع عصابات داعش ومساهمة اعضاءه من عسكريين ومدنيين في جرائم جديدة لا تقل بشاعة عن جرائم حزبهم منذ الثامن شباط 1963 وليومنا هذا ومن هذه الجرائم البشعة " جريمة اسبايكر ".

أن الدعوة الجديدة للمصالحة الوطنية التي تطرح هذه الايام ليست الاولى "نتمنى ان تكون الاخيرة"، فقد سبقتها دعوات عديدة ، منها على سبيل المثال طرح رئيس الوزراء السابق "نوري المالكي" خطة للمصالحة الوطنية من 24 نقطة في حزيران / يونيو 2006 كان من بينها ايجاد الاليات المطلوبة لمعاقبة مثيري النزاعات الطائفية وأنشاء "اللجنة العليا للحوار والمصالحة الوطنية" التي اوكلت مهام قيادتها لاكرم الحكيم المقرب جدا من المالكي ، الا ان اللجنة هذه وقفت عاجزة عن الاستمرار بعملها بعد ان الغى البرلمان مبلغ 65 مليون دولار كان مجلس الوزراء قد خصصها لها علما ان البرلمان كان يهيمن عليه ولليوم الاحزاب الشيعية. ما يدفعنا الى الاقرار بعدم جدية القرار الحكومي حينها نتيجة ضغوط الصقور في هذه الاحزاب وميليشياتهم وكذلك التدخل الاقليمي الهادف الى ابقاء العراق حلبة صراع مفتوحة لتصفية حسابات سياسية على ساحته.

وفي بداية شهر ايلول/ سبتمبر من العام 2007 ولمدة أربعة أيام أجتمع ساسة عراقيون ومنهم من كان يمثل مجموعات مسلحة في "هلسنكي" بفنلندا، وخرج المجتمعون حينها بأتفاق اطلق عليه "اتفاق هلسنكي" الذي خرج بتوصية تعهد فيها المجتمعون على "فتح مفاوضات من اجل المصالحة الوطنية"، وتضمن البيان الختامي لها اثنا عشرة توصية وتسعة أهداف سياسية كان أهمها هو "حل جميع الخلافات السياسية عن طريق الحوار الديمقراطي ونبذ العنف" و "تشكيل لجنة مستقلة تكون مهمتها الاشراف على عملية نزع اسلحة المجموعات المسلحة غير الحكومية". الا ان الذي حصده شعبنا من دعوة "المالكي" واتفاق "هلسنكي" لم تكن مصالحة الفرقاء السياسيين بل حربا طائفية راح ضحيتها مئات الالاف من المدنيين بين الاعوام 2006 – 2008 أي تحديدا بين مؤتمر هلسنكي وعام كامل على طرح المالكي لدعوته !!.

في حزيران / يونيو 2007 تم تشكيل لجنة بأسم "لجنة متابعة وتنفيذ المصالحة الوطنية" التي ارتبطت مباشرة بالمالكي شأنها شأن العديد من المؤسسات المستقلة الاخرى بدلا من ارتباطها بـ "اللجنة العليا للحوار والمصالحة الوطنية" ما ساهم في عدم فعّالية اللجنة التي اوصى المالكي بنفسه لأنشائها!! كما تم في ايلول / سبتمبر من نفس العام تشكيل لجنة خجولة فشلت في مهدها تقريبا بأسم "لجنة المصالحة الوطنية" من أعضاء في البرلمان العراقي وفق مبدأ المحاصصة مما زاد في فرص فشلها.

هناك أمور عديدة وقفت وستقف بالمستقبل ايضا - ما لم يتم تحجيمها - في نسف أية محاولة جادّة للخروج من عنق الزجاجة الضيق جدا والنجاح ولو الجزئي كبداية على الاقل في اعادة الثقة بين المكونات العراقية المتصارعة من خلال مؤتمر واسع للمصالحة الوطنية ، التي عليها ان تجمع جميع الاحزاب والكيانات السياسية العراقية بأستثناء البعث كحزب وليس كأفراد. وفي مقدمة هذه الامور هو التطرف الديني الذي تغذّيه فتاوى دينية غير مسؤولة تساهم في تأجيج الرأي العام على أساس مذهبي و أستمرار أمراء الحرب العلنيين والسريين في مراكز مؤثرة في الحكومة والبرلمان وهم يقودون في نفس الوقت ميليشيات طائفية خارجة عن القانون كونها تحمل السلاح في دولة "ديموقراطية" يحصر القانون فيها حمل السلاح بالدولة واجهزتها العسكرية والامنية فقط.
كما وستبقى عملية دمج اعضاء الميليشيا هؤلاء في الاجهزة العسكرية والامنية خطرا يهدد الامن والسلم الوطني مستقبلا والذي على الدولة ان ترفض هذا الطلب بتوفير فرص عمل لهم في المجالات المدنية كما ذكرنا.

أن مؤتمر المصالحة الوطنية المزمع انعقاده وهو الاوسع مثلما نقل عن العديد من المصادر لم يأتي لوجود نوايا حسنة هبطت فجأة على صانعي القرار السياسي العراقي، أو تعهدات مسبقة للعبادي اثناء طرحه برنامجه الانتخابي ، او وصول القناعات عند الساسة العراقيين على انهاء خلافاتهم تحت ضغط الشارع العراقي المغيّب واليائس من نجاح "ساسته" في معالجة أية أزمة، ولا من ضغط قوى واحزاب المعارضة في البرلمان العراقي او خارج البرلمان ابدا. بل جاء نتيجة التهديدات الكبيرة التي تهدد السلم والامن في المنطقة والعالم الغربي - اذا ما عاد الارهابيون القادمين منها الى بلدانهم - نتيجة تمدد تنظيم داعش الارهابي الذي اصبح مجرد وجوده وليس نجاحه أمرا غير مقبول دوليا واقليميا ولكنه مقبول داخليا وأن على مضض لتصفية الحسابات بين الفرقاء العراقيين انفسهم. لذا نرى وكما سرّبت العديد من المصادر عن نية العديد من الشخصيات المؤثرة في حواضنها والمتهمة بعضها بالارهاب من قبل الحكومة السابقة الحضور الى المؤتمر بضغط امريكي وخليجي.

على الرغم من الضغط الامريكي والخليجي تحديدا والعربي لحدود معينة في انجاح هذا المؤتمر الذي اعطيت بصدده ضمانات من قبل حكومة العبادي بان لا تكون شكلية كالتي سبقتها، الا اننا يجب ان نعترف بوجود مشاكل عديدة قد تساهم في نسف هذه المحاولة التي نحتاجها في هذا الوقت العصيب جدا من تاريخ شعبنا ووطننا لانهاء حالة الاقتتال وبسط الامن وعودة الحياة الى طبيعتها بأعادة عملية البناء. ومن أهم هذه المشاكل:

1- مشكلة كركوك والمناطق المتنازع عليها.
2- أجتثاث البعث.
3- توزيع الثروات.
4- العلاقة بين المركز والاقليم.
5- مستقبل المليشيات.

أن مثل هذا المؤتمر الواسع وبهذا الحضور الدولي والاقليمي وما سيطرح فيه من افكار وتوجهات ستكون متقاطعه بلا شك نتيجة ارث العداء الكبير والموروث من سلطات سابقة ابتداء من البعث وانتهاء بحكومتي المالكي، بحاجة الى شفافية عالية ومصارحة حقيقية من جميع الاطراف بما لها وعليها من مواقف سياسية خاطئة اقرب الى الجريمة تجاه البلد وشعبه. وعلى الحكومة و معارضيها ان يتحلوا بقدر عال من الشجاعة في تقريب وجهات النظر وايجاد الاليات المقبولة والحلول المنطقية القابلة للتنفيذ لحل جبل المشاكل الذي سيواجههم. وتحليهم بالشجاعة يتطلب منهم قبل كل شيء و من اجل فتح بعض الابواب المغلقة أدانة حقبة البعث الكارثية من الجانب السني وعدم الاصرار على وجوده كحزب بالعملية السياسية، والميليشيات الشيعية من الجانب الشيعي، مع تعهدات كوردية بعدم تصعيد الخطاب السياسي مع المركز عند اندلاع أية أزمة والتهديد بالاستفتاء والانفصال، واستمرار العمل مع بغداد لغرض التوصل الى حلول مقبولة للمشاكل العالقة بين الطرفين.

على الفرقاء العراقيين ولكي لا تكون نتائج هذا المؤتمر كاللواتي سبقته الاستفادة القصوى من هذا التواجد الكبير للقوى الاقليمية والدولية في التوصل لحل المشاكل التي من الممكن حلّها اليوم وترحيل المشاكل الاخرى الى آجال محددة بسقوف زمنية معقولة وتشكيل لجان سياسية وقانونية بعيدة عن نهج المحاصصة لمتابعتها، وكم سيكون مفيدا ان كانت هذه اللجان من خارج احزاب السلطة على ان يكون فيها ممثلين عنها لمتابعة اعمالها.

من الغباء ان يخوض المرء قتالا يعرف أنه سيخسره فلا تخوضوا ايها السادة قتالا خسارته وطنكم.