باب من ألف باب

 

الباب الأول:

لا يجهل أحد، أننا نعيش حرباً إعلامية مستمرة على مستويات واتجاهات شتى؛ بين معسكر مؤمن ومعسكر ملحد، أو بين مؤمن (موحِّد) من جهة ومؤمن مثلِّث وآخر مجسِّم من جهة أخرى، أو(موحِّد) ضالٍّ وموحِّد مستبصر، أو مستبصر أعور ومستبصر بعينين ووو...وكل ماكان الاشتباك قريباً ومباشراً ؛كانت نتائجه أشد قسوة وأكثر إيلاماً وتأثيراً.
لكنني سأرفع حدود هذه الدوائر المتصارعة، بناءً على وحدة المنطلقات؛ لنؤشِّر على فتائل إذكاء الفتن بحسب ما يبدو لنا؛ أينما وُجِدت في جميع خطوط المواجهة العامَّة والخاصَّة وخاصَّة الخاصَّة.. فهمي نماذج متماثلة في جوهرها إلى حدٍّ كبير مهما اختلفت أحجامها ومدياتها؛ فهي تتطلب الحذر والفطنة الشديدة واستشعار المحيط استشعاراً مبكراً وبدقة متناهية.

ومن الطريف ما حصل معي قبل مدَّة حينما كنت في زيارة لمن له دالَّة عليَّ. إذ بينما هو جالسٌ يتحدث مع أحد المراجعين حديثاً بينياً.. وما أن سنحت الفرصة بين الحديث؛ حتى بادرني بقول: (صباح الخير)! وكان قد صبحني بالخير من قبلها وفق العرف المعتاد؛ فأجبته: (صباح الخير) بنفس طابع المزحة التي كانت تحملها تحيته.
ورغم أنها كانت تحمل طابع الملاطفة منه؛ لكنها تكتنز حكمة وتحذيرا كبيراً فعيناه المحيطيتان ترمز لإخباري بأمر ما حصل أو قد يحصل.
ففكرت في نفسي؛ لماذا قال لي هذا القول، وما هو الشيء الذي يدور من حولي وأنا نائم عنه؛ لتأتي تحية الصباح مؤذنة بالاستيقاظ؟!

فذهب ذهني مذاهب شتى لإلبس التحذير تارة لباس الموعظة العامَّة، والغفلة التي نحن فيها من النأي عن ذكره وارتكاب معاصيه؛ وهو معنى محصَّل سواء كان هو القصد أو غيره. وتارة أعزيه لتقصير اجتماعي بدر منِّي بحقهِّ أو أمر تلكأت عن أداءه؛ وهذا أيضاً محصَّل من قواعدٍ طالما عُرفتْ بتلكُّؤها وتواكلها.
وبما أننا من القائلين بأن الدلالة تابعة إلى قصد المتكلم لا إلى فهم السامع؛ فإن كان قصد المتكلم منسجماً إلى حدٍّ كبير مع الواقع الاجتماعي بحكم دقَّة اطِّلاعه؛ إذن فسيكون الواقع هو الدلالة وبالتالي هو قصد المتكلم.
هذا بحسب فهمي ولست معنيِّاً بمن يخطِّئ هذا الرجل الحكيم وينسبه إلى النهي عن التأبير، وإفساد الموسم!!

فقلَّبت الأمر وإذا بي أجد كمَّاً من القَيء والنُباح... كان بعيداً عن ثيابي ومسامعي، لا يجدر ذكره الآن؛ لعدم أهميته. فاتخذت ما يلزم اتخاذه بحسب توجيهاته؛ وكفى بالله وكيلا.

ليس هذا محل شاهدي إنَّما ذكرته استطراداً وكشاهداً على ما أودُّ قوله ولا أخفيكم أنْ ربما فيه جواباً ضمنياً لتساؤلات قد تجول أذهان بعض الأخوة، فأدخل في صُلب موضوعي:

من المفاتيح التي يمكن من خلالها الولوج إلى مستويات متقدمة في فهم كلام القادة المسددين باشتراك صفتهم وتفاوت مستوياتهم؛ هو اللحاظ الخارجي وتحسس وقوع الحالة قبل حدوثها، بعد وصفها من قبل هذه القيادات التي تملك ناصية التنبُّؤ أو الاستشراف أو أيِّ تعبير يراه القارئ مناسباً لإطاره الفكري؛ وهذا ملحوظ في خطاب الأنبياء الذي يحدثنا به القرآن وخطاب رسول الله والأئمة من بعده ونوابهم.
وكثيراً ما تجد في تصريحاتهم هذه؛ الجنبة الواضحة من استكناه المستقبل القريب والبعيد؛ وإن لم يصرحوا فيها أحياناً، خصوصاً في عصر الغيبة الكبرى. وإن تحدثوا عن هكذا أمورٍ؛ فإنهم يلبسونه ثوباً استشرافياً ظاهرياً بمستوى أطروحة أو احتمال أو فرضية . وهذا الأسلوب المتبَّع من قبلهم مردُّه إلى عدة أسباب:

السبب الأول: عدم تقبُّل القواعد العامة أسلوب الحتمية، وعدم استذواق السواد الأعظم البعد الغيبي.

السبب الثاني: اصطباغ الحياة بصبغة الامتحان وعدم إعطاء الأمَّة تفاصيل المستقبل بوضوح يذهب حكمة الامتحان.

السبب الثالث:حجب الحكمة عن غير أهلها وحرمان المنحرفين من زمام المبادرة...

السبب الرابع: إن هؤلاء القادة يصرِّحون بأنَّ ( السنن التأريخية؛ تمر من تحت أيدي العباد؛ لا من فوق رؤوسهم ) كما يحدثنا الشهيد الصدر الأول، بمعنى عدم حتمية وقوع تفاصيل الأحداث المتنبَّأ لها ؛ لأنها أمور (اختيارية ولسيت أوتوماتيكية) كما يعبر الشهيد الصدر الثاني؛ وهو ما يصطلح عليه كلامياً بالبداء.

السبب الخامس: توجد قضية (أخلاقية) تتعلق بنفس تكليف القائد الذي لا يمكننا اكتناه ماهيتَّه إلا ما بيَّنه هو لنا؛ لأن تكليفه يتعلق بمستواه، في حين أن مستوى القائد الرباني المرتبط بالغيب ارتباطاً حقيقياً لا وهمياً؛ لا يعرفه أحد غيره إلّا الله تعالى إنما يعلم مقامهم فقط هو علام الغيوب جل جلاله - وليس هذا محل الوقوف على هذا الباب.

محل الشاهد: إنَّ المرجعية الدينية في النجف الأشرف، في حديث يشي بحدةٍ مقصودةٍ في أسلوبٍ هادئٍ – كما هو دأبها – يُغَيٍّب على غير المعنيّ الأسلوبَ الإنوائي المنْبِئ عن عاصفة ما! 
وهي سمة مصاحبة للخطاب الرسالي الإلهي. تحدث المرجع اليعقوبي قبل مدَّة في لقاء مع نخبة من الرساليين، عن القوة الناعمة، وأشار إلى أوضح مصاديقها وهو الإعلام، وقد حذَّر من هذه القوة بشكلها المضاد، كما أنه حثَّ على التركيز عليها بشكلها الإيجابي. وقد أثرى هذا المصطلح بمصاديق ومعانٍ جديدةٍ قد نقف عليها في مناسبة أخرى. وقد تضمَّن الحديث مضامين لا حصر لها، ولّما كان حديث المرجع باباً ينفتح منه ألف باب؛ سأختار في هذه المناسبة، باباً واحداً: وهو الإعلام والإشاعة. وسيكون هذا بأبواب وحلقات إن سنحت الفرصة بإذن الله تعالى.

من أدوات القوى الناعمة، هو الإعلام وأوضح مصاديقه السلبية هي:

الإشاعة:

فقد حذر المرجع اليعقوبي (دام ظله) من الإشاعة التي تستخدم كأسلوب للفتك بالآخر، وحث الخطباء والمبلغين، ومنهم في مستوى التكليف، من هذه الحرب قبل وقوعها، بحسب ما يُفهم من بين السطور، وكانت بعض كلماته- كما سنقف عليها مفصَّلاً بإذنه تعالى - توحي بأننا مقبلون على عاصفة من الدعيات المغرضة التي هدفها نسف المشروع الإسلامي المعتدل، تحفزها دعائم مشجعة على حصد هذه النتيجة من داخل الكيان نفسه. ولم نجد كالمعتاد صدىً لهذا التوجيه عند خطباء الجمعة والروزخونيين في (موسم التبليغ ) (المحرَّم) والذي من المفترض أن يكون فرصة لنشر التعاليم الإرشادات التي من شأنها التوعية والوقوف على أهم قضايا وهموم المجتمع. وسنتناول جانباً من هذه الإشاعة، وهي الإشاعة التي تنشأ من الداخل؛ لأن المرجع ذكر بأن (الإشاعة لاتكون لها مادة وتزدهر وتفرِّخ إذا لم يكن لها مادة تقوُّمها (منشأ) [من داخل الكيان] .وسنذكر في هذه الحلقة معالمها ثم نذكر أسلوب علاجها بحسب ما بيَّنه (دام ظله) في حلقة قادمة بإذنه تعالى.

ويمكن افتراض معالم هذا المخطَّط، من خلال قراءة التجارب المريرة والمتكررة في كلِّ جيل متعلق بالقيادات الصالحة على وجه الخصوص، في الملخَّص الآتي:

١- زرع الشكِّ في نفوس الذين يعيشون هاجس الإصلاح والتغيير، وإرهابهم من ردَّة فعل عالمية أو إقليمية قد تفشل أيَّ مشروع يتقدم خطوة نحو الإصلاح وتغيير المعادلة المقيتة التي يقوم عليها عالم اليوم. بأسلوب الناصح المنتمي! " وإذ قال لهم الناس إن الناس قد جمع لكم فاخشوهم"؟! 
2-
إدخال عناصر طارئة ورعناء في داخل الكيان، ظاهرها الانتماء والولاء؛ تقوم بتقديم نفسها ممثلاً أو ناطقاً رسمياً لهذه القيادة، ومن ثم التدرُّج بزعزعة ثقة الأمة بكفاءة وحكمة القائد عن طريق إفهام الأمة أن القائد لا يلتفت إلى خطورة بعض الأمور المهمَّة وأنَّهم ينبُّهونه ويرشدونه لخطورة الموقف ..!
ثم الانتقال إلى مرحلة ادِّعاء أخطاء وهمية وإشاعاتها في صفوف الناس الذين يحسنون الظن بهؤلاء حتى يصبح الحديث عن أمور لا أصل لها غير غريباً، ومستساغاً بل قد يكون تخطيء هؤلاء الطارئين على المشروع من الخطوط الحمراء! 
وهذا كله تمهيداً لعملية خطف الخطاب الرسمي – كما يتوهمون – للقيادة لترتيب لهم سلم الأولويات وتحديد ما هيَّة الصغير والكبير والأكبر وغير المهم والمهم والأهم وما يقال وما لا يقال وما حان وقته وما لم يحن وما لم يحضر أهله وما حضر أهله، وما يصرح به وما لا يصرح؛ لتكون لهم أزمَّة المتى والأين والكيف!!! (وكل شخص يرفع صوته بكلمة... فالسيف المعنوي موجود؛ لا يبقى له رأس ولا رجلين)
وهكذا يصل (الغرور الملَقَّن) بهذه الطبقة التي تعد نفسها نخبة متميزة؛ أنْ تنُصِّب نفسها يعسوباً للمشروع؛ تدخل من تشاء في رحمتها وتخرج من تشاء، وتخطِّئ من تشاء، وتصنِّف المعتدل والمتطرِّف كيف تشاء، بل يصل بها داء العظمة والجنون، أن تجعل من نفسها باب حطة التي يعلن بدخوله التوبة وتحديد مواعيد وسقوف زمنية للإنابة قبل إعلان دينونة أوهامهم واليأس من رحمة الله!!!

لكنًّ هذا الأمر - محاولة خطف الخطاب الرسمي للقيادة – بصراحة وكل وضوح إن حصل مع مرجعيات أخرى؛ فهو مستحيل الحصول مع مرجعية ناطقة وواعية لكل ما يدور حولها من أفعال ونوايا، مهما أُغدقت الدولارات والتومانات والجنيهات الاسترلينية وربما عملات لا يعلمها إلا الله تعالى ومن يصرفها ويأخذها، وقد لا يتعلق الأمر بالأموال فربما هو حبُّ الجاه أو حبُّ التميُّز أو الاعتداد بالنفس أو غيرها من أمراض النفس التي لا حصر لها ولا ننزه أنفسنا منها؛ لهذا انتقلت المحاولة إلى محاولات توجيه إرشادات وأقوال المرجع – كما حصل هذا في محاولة توجيه البيان الذي صدر إثر اجتياح الموصل - على سبيل المثال وليس الحصر – لكنَّ هذه المحاولة هي الأخرى أيضاً قد فشلت وستثبت فشلها أكثر في قادم الأيام، فانتقلوا إلى محاولة تجاهل خطابات المرجعية الدينية في النجف الأشرف، من خارج كيانها ومن داخلها، وهذا هو الآخر فشل بوضوح بعد بلوغ صداها الخافقين وسيتجلى دويِّاً وعلُّواً أكثر فأكثر، فانتقلوا إلى آخر مرحلة في هذا المخطط؛ وهو مصادرة الحلقة الوسطية -كما سيأتي في النقاط الأخرى – والتقليل من شأن الرموز الكبيرة والمهمَّة والتي لازالت آثار سيفها في رقاب لاتهم وعزتهم ومناتهم... فهم لن ينسوا لها ما قامت به من تعرية لتأريخهم النتن الملطَّخ بالعار والخذلان، أضف إلى ذلك ضعاف النفوس الذين يرعبهم بريق سيوف المواجهة، فكرية كانت أو غيرها.

وهذا ليس حديث عن فرضيِّات وتوقُّعات لأمور قد تحصل أو تخمينات؛ بل توجد على هذا الغثيان المفرط والدوار الإجرائي، شواهد كثيرة لا نستطيع كشف جيفتها ووسمها بأسمائها؛ ولكن قد يكون الكثير قد اطَّلع عليها عبر التأريخ وفي كل جيل وتصريحاتهم موجودة وموثقة.
رغم أن الكثير لازال يشمُّ منها رائحة عبير مسكي! لأنه اعتاد على شمِّها فغلَّفت عقله. أو ربما أصابه زكام الفتنة التي خلطت الأوراق وقلَّبت الأمور.
لكن مثل هذا قد يكون معذوراً والأمل بصراحة معلَّق في التعويل على مثل هكذا مقال أن يعينه على الإلتفات والتبُّه، ولو بمقدار واحد إلى الألف أو حتى أقلُّ من ذلك؛ فهو مأمول منه؛ لأنه سيعرفها بحقيقتها بعد زوال الزكام مع رجائي ودعائي الخالص بأن يكون في هذه السطور مضاداً حيوياً نافعاً منكم وإليكم مع تذكرنا دائماً بأنه رب ناقل فقه إلى من هو أفقه منه.

3- زرع الأفكار والنظريات الجوفاء والملفَّقة من جذور شاسعة عن المنطلقات المعقولة والرصينة، والتي لا يُلتفت إلى خطورتها في الغالب؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ قيادة تيار إخباري من داخل المؤسسة أو هكذا يبدو أنها تريد أن تلبس تمردها طابعاً نظرياً ممنهجاً كما هو واضح من تصريحاتهم المستنسخة من رموز إخبارية وغيرها، فراجع.
4-
التدليس على الناس وإشاعة ما يسمى بالسلوك أو التصوف وكسب الشباب عن طريق تظاهرهم بالزهد وإنهم ( يرتفعون من الأرض)! وأن لهم كرامات ويخرجون إلى الناس شعثاً غبراً متسخين الثياب؛ ليقولوا للناس أن هذا نموذج الإسلام الأمثل.

5- ضرب الرموز المخلصة للقيادة الصالحة، وتلفيق الإشاعات ضدهم ،والتشويش على أفكارهم وأطروحاتهم؛ لخلق واقع مناوئ للحركة الفكرية التي من شأنها كسر الجليد السلفي الذي تطاول عليه الأمد فأصبح كالحجارة أو أشد قسوة من حيث التكيف مع المرحلة ومتطلبات العصر.

6- المرحلة الأخيرة - بحسب هذا الاستقراء - هو إعلان البراءة النهائي بشكل رسمي كما حصل فعلاً عند البعض الذين لم ينفع التحذير منهم وأُعطِيَت فيهم الأذنُ الصمّاء وليس فلان وفلان عنكم ببعيد، كما هو الحال مع أبي موسى الأشعري الشخصية التي لا يشك في إخلاصها ونزاهتها المغفلون الذي فضلوه على مالك الأشتر الذي اختاره أمير المؤمنين وأشاد به ووصفه بأنه ممن يستظهر به على إقامة الدين وتقمع به نخوة الأثيم ...ولكن كان جواب الملأ..وهل أضرم النار إلأَّا الأشتر . وهل جر ما نرى إلَّا حكومة الأشتر . ولكن أبا موسى!! . فأباه فلم يقبلوا منه واثنوا عليه . وقالوا : لا نرضى الا به فحكمه على مضض)!!!

وقد لا يكون تبرؤهم بشكل رسمي؛ بل بعدم الالتزام عملياً بما أقرَّه وألزم به نفسه، وقدَّم شخصيته كجزء منه بل وممثل عنه بشكل أو بآخر. هذه أوضح أساليب المخطط الذي ستتضح معالمه قريباً "فانتظروا إني معكم من المنتظرين" أما وضع الحلول الوقائية لتفادي تداعياته فتشخيصها أول طريق لاتقاءه؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى توضيح تفاصيل أخرى إن سُمح بذلك. ولا حاجة للتذكير أن الكلام لا يخص جهة أو شخص بعينه داخلياً كان أو خارجياً ومن أي ِّاتجاه أو في أيِّ كيان بل لا يخص طائفة ما، وإن جال في تصوراتنا أمثلة منظورة، إنما هو معنى عام يصدق على تطبيقات عدة، وما استحضاري لشواهد مذهبية أو غيرها إلأا هو من باب المثال القريب. " واتقوا فتنة لا تُصيبَنَّ الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أنَّ الله شديد العقاب".