الأزمة السياسية .. تهدئة تكتيكية بأنتظار معركة مؤجلة لوقت لاحق

بغداد – تسير الأزمة السياسية الحادة بين المتحالفين تحت راية الإحتلال الثلاثي الأمريكي والبريطاني والإيراني، نحو المزيد من مؤشرات التهدئة، رغم حالة التوتر السائدة بين نوري المالكي ومسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان. وعدم وجود منتصر في تلك الأزمة السياسية التي كادت أن تسحب البلاد نحو المزيد من التردي والحرب الداخلية، وسط أرتفاع الشعار السياسي المتداول عن خسارة الجميع في أية مواجهة داخلية، بل حتى على مستوى المكاسب "الواقعية" التي كانت الأطراف تنتظرها كنتائج تكتيكية للأزمة.

فبعد اشهر من الصراعات السياسية والمعارك الكلامية والاصطفافات العلنية والسرية، عاد الهدوء ثانية الى رؤوس أطرافها، وبردت مشاعر الغضب، وبذلك تراجعت شدة الأزمة وأوشكت نارها على الإنطفاء.

وقد أفرز المشهد صورة مفادها أن خصوم المالكي لم ينجحوا في الإطاحة به، أو حتى ضمان الإصلاحات التي نادوا بها، فيما المالكي نفسه لم ينجح في تفتيت جبهة خصومه أو استرضاء أي من أطرافها، في مقابل تجذر شكوك عميقة في إمكان القبول به شعبياً وسياسياً لولاية ثالثة.

ويرى المراقبون والمحللون السياسيون أن الأزمات في العراق المحتل تشتعل وتهدأ بتصريح مزاجي وبموقف عاطفي وبردة فعل إرتجالية. والسبب يعود الى غياب المشروع الوطني في بناء الدولة، فلا يوجد كيان او شخصية سياسية من الأسماء الموجودة في صدارة المشهد تمتلك رؤية واضحة لعملية البناء، إنما هناك مجموعة شعارات وكلمات عامة، يرددها المواطن البسيط قبل المسؤول والسياسي الكبير، من قبيل "ضرورة الحوار"، و"اهمية التفاهم"، و"تغليب المصلحة العامة"، وما الى ذلك.

وأضافوا أن المتحالفين السياسيين لا يشعرون بالحرج وهم يتصرفون على هذه الشاكلة، ولن يشعروا بالحرج لو عادوا واشعلوها ثانية، كما حدث في مرات كثيرة، والسبب في عدم شعورهم بالحرج هو ان ساسة العراق يتعاملون على ان العملية السياسية هي سوق المصلحة الخاصة لهم ولكياناتهم، فصفقاتها السياسية ومناصبها ومواقعها كلها تجري على اساس توزيع غنائمي وتقسيم للمكاسب. فالأزمة تشتعل ليس بسبب الحرص على مصلحة المواطن وليس بسبب الإعتراض على تفشي الفساد ونقص الخدمات، إنما لعدم حصول هذا الطرف أو ذاك على المنصب الذي يريد وعلى الإمتياز الذي يرغب به.

قبل قرابة شهرين كان الحديث متواتراً عن نمط مواجهة "مصيري" في العراق لا يحتمل أنصاف حلول، وكان الافتراض القائم أن المالكي في حال نجح في التمسك بمنصبه سيحقق مكاسب سياسية وشعبية واسعة النطاق تسحب البساط بشكل حاسم من كل معارضيه وتكرسه وحزبه لسنوات مقبلة على رأس السلطة في العراق.

وهذه القناعة التي ما زال المدافعون عن سياسة المالكي يتمسكون بها تمتلك الوجاهة المنطقية في نظرهم، فالمالكي على أية حال إذا لم يكسب حيزاً شعبياً جديداً فأنه لم يخسر حيزه الحالي الذي يتيح له لا محالة المنافسة في قمة هرم السلطة في المستقبل القريب.

وأبعد من هذا فان رئيس الحكومة العراقي وهو يدير دفة الأزمة التي حاول الخصوم تركيزها في مفهومي "التفرد بالحكم" و"الولاية الثالثة" لجأ إلى عمليات التفاف واسعة النطاق اخترقت بعض أهم مبررات وحدة التحالف المناوئ له.

فمن جهة كان التحشيد حول شعار "وحدة العراق أمام المؤامرات التقسيمية" كفيل بأن يربك التحالف السني – الكردي الذي تم الترويج له باعتباره "محاولة تقسيمية" ارتبطت مع مساعي محافظات سنية إلى إعلان الإقليم الفيدرالي، ولم يكن صعباً الحصول على مناوئين للفيدرالية في الوسط السني، فيما أن النبش في الحساسيات العربية – الكردية في المناطق المتنازع عليها مثل كركوك، كفيل باستقطاب الأطراف القلقة من الطروحات الكردية حول تلك المناطق من العرب والتركمان.

ومن جهة أخرى فإن تفكيك التقارب بين الصدر والقائمة العراقية، كان يتطلب وضع تيار الصدر أمام ثوابته الأساسية خصوصاً في ملفي ضباط الجيش السابق والبعثيين، حيث يعلن المالكي إعادة ضباط الجيش السابق إلى الخدمة، ومن ثم يتحدث المقربين منه عن تخفيف في ضوابط "المساءلة والعدالة" الخاصة بالبعثيين، وهما قضيتان تعدان من متبنيات القائمة العراقية، فجاء أكثر الردود المحتجة على هذه التطورات من تيار الصدر حليف العراقية.

لكن تلك المكاسب المفترضة، لا تتعدى قشور الصراع السياسي حول الحكم في العراق، فالمالكي الذي حاول إظهار العصا والجزرة لإرباك خصومه، ورفع الشعار الوطني في مقابل اتهام خصومه ضمناً بـ "التآمر" مع دول إقليمية لإسقاطه، كانت الوقائع تشير إلى أنه تلقى الدعم الأكبر من إيران والولايات المتحدة للحفاظ على منصبه، ما يضعف حملة أنصاره لربط "مؤامرة إسقاطه بالخارج".

ورغم تراكم الإخفاق في توفير الخدمات الأساسية ومحاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية وإقرار القوانين الضرورية، فإن مصدر القوة الأساسي لحكومتي المالكي الأولى والثانية يكمن في القدرة على ضمان الفارق الملموس على المستوى الأمني مقارنة بفترة الحرب الطائفية عامي 2006 و 2007، لكن تلك الفرضية تواجه باستمرار تحديات تفاقم الاضطرابات الأمنية وديمومة النشاط المسلح خارج المنظومة الرسمية. وقد نجحت هذه الخطوة في منع الوصول إلى نقطة التصويت على سحب الثقة حتى الآن، لكنها لن تضمن في المراحل المقبلة عدم اجتماع هذا الحشد المهدد لـ "الشرعية" على هذا الهدف مرة أخرى.

في مقابل ذلك فإن الجبهة التي تشكلت لإقالة المالكي كانت قد وقعت في سلسلة أخطاء منهجية لتعريف أسباب تشكلها والقضايا التي تلتقي عليها، فحشرت نفسها في أهداف غير "استراتيجية" بينها هدف إقالة المالكي نفسه ناهيك عن هدف تحديد ولاية رئيس الوزراء.

فأطراف أربيل لم تكن بمعرض البحث عن آليات لتوضيح أهدافها، واستسلمت بدورها إلى افتراض أن صراعها الأساسي هو مع المالكي كشخص لا كمنهجية لإدارة البلاد.

وبالتالي فإن لا مؤشرات واضحة اليوم أو في المستقبل القريب تفيد بأن الأزمة سوف يتم حلها سواء عبر عقد مؤتمر للإصلاح أو بطريق إقالة المالكي أو منعه من الترشح لولاية ثالثة، أو حتى بإعادة الانتخابات على أمل تغيير الخريطة السياسية الحالية.