العراق ومحطة الـ «الكومبرومايز»

لا ينبغي ان نبسّط المشهد المتمثل في احتشاد العالم وراء العراق لمواجهة ارهاب "داعش" فثمة الكثير من خطوط التشابك والتضارب في النيات والسيناريوهات والتصورات، وثمة الكثير من اللاعبين لم يخرجوا من منطق الحرب الباردة التي طويت منذ نهاية القرن الماضي، ومن زاوية، يبدو ان العراقيين وحدهم يكيلون، حتى الآن، بمكيال واحد: لا مجال للمناورة والسكين في خاصرتنا، ويمكن لكم ان تجدوا الحلول الوسط "الكومبرومايز" لخلافاتكم ومحاوركم، فنحن لسنا طرفا فيها.
لكن القضية، اعقد من ذلك، اذا أخذناها من زاوية العلاقة الموضوعية بين "معركة العراق" ضد "داعش" وبين سلسلة المشكلات الدولية، من اضطراب اسواق النفط، وقضية اوكرانيا، والصراع العربي الاسرائيلي، والبرنامج النووي الايراني، وعلاقة تركيا بالجماعات الارهابية، وملف كرد المنطقة، حتى اسئلة الحرب السورية، وتأثيراتها على نتائج المواجهة مع الارهاب على الارض العراقية، في وقت اصبح فيه واضحا بأن دحر مشروع "داعش" في العراق يعني بدء العد العكسي بالنسبة لمستقبل الجماعات الاسلامية التكفيرية المتطرفة.
الغرب، يبحث كل هذه الملفات، والى وقت قريب كان ينظر بعين واحدة الى ما يعنيه وجود حركة متحدرة من القاعدة تخوض القتال ضمن مشروع "الثورة السورية" لكن سرعان ما استيقظ الغرب على مشهد مفزع لأعمال ذبح طالت اكثر من 70 ضابطا سوريا منشقا عن الجيش الحكومي على يد تنظيم "داعش" الذي انشق توا عن "جبهة النصرة" الفرع السوري لتنظيم القاعدة بقيادة ايمن الظواهري، وكان يُعتقد بأن الشخص الذي يقود هذا التنظيم الارهابي "ابو بكر البغدادي" لن يكون له شأن في معادلات الحرب الجارية، ثم، تبخرت هذه الاوهام وحل محلها قرار بوجوب خوض حرب استباقية ضد هذا التنظيم قبل ان يمتد الى دول المنطقة ويضرم النار في خارطة الشرق الاوسط، وآبار النفط، واستقرار العالم، وهيمنة الغرب على العلاقات الدولية.
طبعا، كان الايقاع يبدو بطيئا في البنتاغون والناتو، والجميع كانوا ينتظرون اشارات الرئيس الاميركي، ومن جانبه كان أوباما يقول للذين يلجأون اليه طلبا للحل "إن امتلاكنا لأفضل مطرقة لا يعني أن كل مشكلة عبارة عن مسمار" وذلك في محاولة لمكافحة الشعور السائد بأنّ النوع الوحيد من القيادة الدولية المفيدة في مثل هذه التحديات لا يعني إلا استخدام القوة العسكرية، بل انه استفاق من هول مشهد ذبح الصحفي الاميركي جيمس فولي، ثم بعد ايام ذبح المراسل ستيفن سوتولوف، فسقطت الستارة عن فضيحة موازية، إذ ان على اوباما ان يعترف بأنه كان حالماً عندما بشّر بنهاية الإرهاب عقب نجاح قواته في قتل بن لادن زعيم تنظيم "القاعدة" لذلك لم تمض سنوات قليلة على ما بدا أنه "خطاب نصر" في مناسبة مقتل بن لادن حتى اعترف أوباما بأن إدارته وأجهزته الاستخباراتية أساءت تقدير خطر الإرهاب، غير أن هذا الاعتراف لم يغير شيئاً.
تقول معلومات الصحافة الاميركية بأن الرئيس اوباما، ركن جانبا ملف اوكرانيا الملتهب، بل انه اعطى تعليماته باعتماد خيار "الكومبرومايز" مع روسيا من اجل كسب ودها للحرب على "داعش"، وكان ذلك موضع ترحيب في موسكو التي كانت قد تورطت في الشعاب الاوكرانية الى ابعد الحدود بحيث تعرضت الى حزمة عقوبات اممية الحقت بها اضرارا فادحة الغمت الطريق الموصل بينها وبين سوق التجارة الدولي، ويقول الخبير الالماني في الشؤون الروسية "كارل بيلت، بان "عودة روسيا الى اوكرانيا بالقوة العسكرية كما لو انه اعادة عقارب الساعة الى الوراء" ورصد بأن "هذا الخيار الروسي كان محفوفا بالصعاب وذا كلفة باهظة، فضلا عن الأزمة التي نجمت عنه، بنشوء تصدعات جديدة في مجتمع أوكرانيا، كما تسبب بإلحاق المزيد من الضرر باقتصادها الهش، أصلا، ويوما ما، قد يمتد هذا الضرر إلى روسيا، لذلك لابد أن تكون للكرملين مصلحة في وجود دولة مجاورة مستقرة وحريصة على الإصلاح وتسعى مثلها مثل دول أخرى إلى إقامة علاقة وثيقة مع الاتحاد الأوروبي".
اما صحيفة التايمز اللندنية فقد اجملت المعاينة في التغييرات التي احدثتها حملة مكافحة الارهاب في العراق، فنعت سياسة الركض الى الامام من الادارة الاميركية ورصدت العودة المفاجئة الى نوع من "الكومبرومايز" قائلة "يترتب على الولايات المتحدة العمل مع حلفاء غير مثاليين في المنطقة من أجل احباط مخططات الخصم ووحشيته" وفي غضون ذلك ازدحمت المفردات الدبلوماسية للناطقين الاميركيين بعبارة الحلول الوسط، وسرعان ما قُرئت على انها مقدمة لإدراة عملية تقويم السياسات المعلنة، بخاصة حيال الملف السوري، وجاء رصد ذلك على لسان رئيس الوزراء الروسي، ديمتري ميدفيديف، في مقابلة مع شبكة "صوت روسيا" قائلا بأن "أميركا لم تعد تطالب باستقالة الرئيس السوري بشار الأسد، بل تحاول أن تقيم اتصالات منفصلة مع قيادات سورية حكومية" مشددا على "ضرورة محاربة الإرهاب في سوريا بالتنسيق مع الحكومة السورية وبموافقتها" والى ذلك توصلت واشنطن وأنقرة إلى "حل وسط" بصدد الدور التركي المطلوب في مواجهة "داعش" واسفر ذلك عن خطوة لتنفيذه على الارض بقرار الحكومة التركية بتسهيل عبور مقاتلي "البيشمركَه" من كردستان العراق إلى عين العرب الكردية وإسقاط طائرات أميركية شحنات سلاح إلى مقاتلي البلدة المحاصرة من قبل "داعش".
وفي الاتصال الذي اجراه الرئيس الأميركي باراك أوباما بنظيره التركي تعهد الطرفان بتعــزيز مكافحـــة "داعش".
والى مصر اتجهت ماكنة "الكومبرومايز" الاميركية بعد برود في اقنية الاتصالات بين الطرفين ولاحظت افتتاحية صحيفة التايمز (21/ 10) تحت عنوان "السلام البارد مع القاهرة" أن "لمصر مصالح مشتركة مع الغرب خاصة بما يتعلق بالحرب التي يشنها ضد تنظيم داعش، مشيرة إلى أنه يجب على الغرب تقبل نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الحائز على ثقة الكثيرين من أبناء شعبه، والماضي في حرب لهزيمة التطرف الاسلامي في بلاده" غير ان ثمة اصواتا في الادارة الاميركية عبرت عن مخاوفها من استطرادات الكومبرومايز خشية ان يأتي يوم يكون فيه حلف الناتو بلا وظيفة، وعن هذا قال رئيس لجنة المجلس الاستشاري الديمقراطي (حزب اوباما) دين إتشيسون في اشارة الى المخاوف في أوروبا حول عزم أميركا التراجع عن سياسات الضغط العسكري قائلاً: "الناتو عبارة عن تحالف، وليس أريكة طبيب نفسي!".
طبقا لأرسطو فان علم السياسة هو سقف المعبد وباقي العلوم أعمدته.
والسياسة في قواميس اللغة والاصحاح تعني "سوس الإبل الى مورد الماء"، وهي مطبخ للمأكولات الصالحة والملوثة، وهي فن الممكن، أو رصد هبوب الرياح، أو هي شيطان إذا ما عجز عن الفتنة طلب العون من البشر انفسهم, وقبل هذا وذاك، ينبغي ان نحسم الجدل حول ما إذا كان للسياسة بُعد اخلاقي كما يذهب أرسطو ــ واقتفاه ابن المقفع ــ حين يقربها من علم الاجتماع، أم هي داعرة، كما يخالها ميكافيلي ــ والتحق به صدام ــ حين يعطي الحق للحكام أن يمدوها على قدر اسرّتهم، فيما حذرنا ابن طباطبا من خلط المنحى الاخلاقي بالمناحي الفلسفية أو الفقهية أو الاجتماعية أو الدينية، ودعانا الى احترام الحدود التي تتحرك فيها فرضيات السياسة وموجبات الاجتهاد في علومها، لكن، السؤال المهم هو: ماذا تعني السياسة من دون مبدأ الحلول الوسط؟ حول هذا السؤال عَقدت ورش تفكير كثيرة تمخضت عن القول بأن جوهر علم السياسة هو البحث عن الحلول الوسط، وبمعنى آخر ان الاخلاقية السياسية نسبية الى حد كبير، ذلك لأن مبدأ الحلول الوسط لا يسمح ان ينتصر احد الفريقين المتخاصمين، ولا أن يلقى بالآخر الى خارج المعادلات، وكان مترنيخ، مهندس الصفقات اللااخلاقية، يقول: "اعطوني ساعة واحدة أغـّير فيها مجرى الاقدار، لكن على السياسيين قبل ذلك ان يخلدوا الى الراحة ويتركوا الساحة الى صفقات قد لا ترضيهم".
فمن الذي يعلن انه سيأخذ بنصيحة مستشار النمسا الذي وصف في قواميس السياسة بالداهية.. وهي نصيحة باهظة التكاليف؟