(سبايكر) بين محاولات الفتنة وأصوات الحكمة ... (ملف تخصصي)

العراق تايمز: كتب لؤي المحمود..

كان السقوط الدراماتيكي لمدينة الموصل بيد ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) زلزالا ضرب العملية السياسية العراقية، وبداية لعهد جديد بدأت تشهد المنطقة بداياته لكن مآلاته ما تزال مجهولة حتى اللحظة.

أسئلة كثيرة طرحت، وتحليلات قيلت هنا وهناك لكن الموضوع لم يتعد طور التكهنات السياسية، إذ كيف استطاع بضع مئات من مقاتلين معزولين ومطاردين في الصحراء من السيطرة على ثاني أكبر مدينة في العراق وبهذه السهولة، رغم وجود ستة فرق عسكرية من الجيش والشرطة الإتحادية فيها؟ وكيف بدأت مدن كثيرة في شمال ووسط العراق تتداعى لتسيطر عليها (داعش) وسط انسحاب فرق الجيش وآلياته وخسائره المتتالية، التي كانت كارثتها الكبرى ما حدث بتكريت في كلية القوة الجوية سابقا أو ما تعرف بقاعدة (سبايكر)؟

مجزرة (سبايكر) كانت الحدث الأبرز التي توج النهاية الدموية لحقبة سوداء في تاريخ العراق الحديث، تلك الفترة التي تفرد فيها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي بمقاليد السلطة مهمشا حتى حلفاءه السابقين فيها، وما أثارته سياساته الطائفية الإقصائية من توترات وأزمات وانهيارات أمنية مستمرة، كانت خاتمتها سيطرة تنظيم (داعش) على مساحات كبيرة تقترب من ثلث البلاد، وما أعقب ذلك من حملات قصف جوي لم تفرق بين مدني ومحارب في المناطق السنية، وموجات نزوح هائلة لسكان تلك المناطق نحو المجهول.



وفي ظل السياسات الإقصائية والإنتقامية التي قاد بها المالكي العراق لدورتين وزاريتين أصبح من العبث المطالبة بالكشف عن نتائج التحقيق في المجازر المتتالية وأعمال العنف والتفجيرات، إذ سرعان ما يعلن عن تشكيل اللجان ثم لا يسمع بها أحد بعد ذلك!.



نيران الثأر ومصالح المهزومين!!

ويبدو أن مجزرة (سبايكر) على فداحتها وعظم عدد ضحاياها أستخدمت لتكون شماعة لتأجيج العواطف الشعبية لقطاعات كبيرة من العراقيين، لا سيما وأن الطرف الآخر (داعش) قد أعلن عن تبنيها بصراحة وبث مقاطع فيديو لبعض مشاهدها المروّعة، في تناغم كبير بين خطين يبدوان متنافرين تماما (المالكي وداعش)، كما أن ما تلا ذلك من ازدياد عمليات الخطف والقتل لسنة بغداد، وارتفاع الاصوات المنادية بالثأر من بعض عشائر مدينة تكريت؛ كل هذا يدعو إلى مزيد من التأمل وإعادة قراءة الحادثة عبر البحث عن المستفيد الحقيقي منها.

أضف إلى ذلك إفادات الناجين من المجزرة، واعترافات بعض ضباط الجيش التي أشارت بوضوح إلى وجود تواطؤ أو سكوت على الأقل من بعض الضباط الذين سمحوا لعشرات الجنود بالخروج من القاعدة رغم علمهم التام بأن (داعش) تحاصرهم من جميع الجهات، كما أن نداءات الإستغاثة التي أطلقها المحاصرون داخل القاعدة لم تلق أي استجابة من بغداد، ليترك المحاصرون يواجهون القتل والذبح على أيدي المسلحين.



ولا تبدو هذه الحادثة غريبة أبدا عن السياق العام الذي كانت تصنع وتتم به الأحداث الأمنية في عراق المالكي، حيث أن تكرر هذه الحادثة فيما بعد في الصقلاوية والثرثار والسجر وهيت وغيرها يعطي إشارات واضحة إلى أن القضية ليست قضية عجز عن التصدي لمخاطر (داعش) بقدر ما هي محاولات بعض القائمين على المشهد الأمني لصب الزيت على النار لإدامة زخم الصدام الطائفي الذي يبدو العراقي البسيط هو الخاسر الأكبر فيه حتى الآن.



ورغم فداحة الخسائر البشرية للأبرياء العراقيين على اختلاف انتماءاتهم منذ سنوات وخاصة بعد بداية انفجار أزمة المحافظات الست المنتفضة مطلع العام الحالي، إلا إن تركيز الإعلام التابع لبعض الأحزاب المتنفذة في السلطة على الحادثة ومحاولة توريط وتحميل بعض العشائر السنية المسؤولية عنها يدفع إلى التساؤل عن الغاية من وراء ذلك، لا سيما وأن مجازر أخرى لا تقل بشاعة عن (سبايكر) قد ارتكبت ولا تزال، ويذهب ضحيتها مواطنون أبرياء في بغداد والفلوجة وتكريت والحويجة والموصل وديالى وغيرها كل يوم، دون أن يكلف القائمون على وسائل الإعلام هذه حتى عناء الإشارة إليها أو استنكارها، رغم أن الجميع يعلن أن الدم العراقي خط أحمر!.



(
الحرس القديم) وإثارة النعرات الطائفية

لقد وضعت سياسات المالكي العراق أمام حافة الهاوية، وحمّلت الحكومة الجديدة التي جاءت بعد مخاض عسير مسؤولية كبيرة يبدو أنها تثقل كاهلها حتى الآن، فمحاولات الرئاسات الثلاثة تدارك الأزمة وتداعياتها لا تزال تصطدم بالعديد من العقبات؛ على رأسها هيمنة مستترة لبعض عناصر ما يمكن تسميته بـ(الحرس القديم)، وهم مجموعة من المتنفذين وأصحاب المصالح الذين ارتبطوا بشبكات علاقات واسعة مع نوري المالكي، من بينهم رجال أعمال وعسكر وموظفون كبار في الدولة لا يزالون يحلمون باستمرار نفوذ المنظومة (المالكية) التي جمعتهم، يتزامن هذا مع بطء حركة التغيير والإصلاح التي أعلنت عنها جميع الكتل السياسية التي شاركت في تشكيل الحكومة الأخيرة، والتي تبدو عاجزة حتى الآن عن التعامل مع المعطيات الخطيرة التي تدفع باتجاه انفجار العنف الطائفي المدفوع والمغذّى من عناصر داخلية وخارجية، فيما يبدو الخطاب المتسامح والداعي للتسامي فوق الجراحات غائبا حتى الآن، في حين ترتفع الأصوات المتشنجة والداعية للثأر عبر قنوات محسوبة على أطراف مشاركة في العملية السياسية.



هذه القنوات ما زالت تستثمر في أصوات نشاز تحوم الكثير من الشبهات حول ارتباطها بملفات فساد في الحكومة السابقة، وعلى رأس هؤلاء النائب حنان الفتلاوي التي لا تكل في تطوافها على الفضائيات من الدعوة للثأر وتهييج جراح ذوي ضحايا الحرب الأخيرة المستمرة من أهل الجنوب، ويبدو أن الموضوع هو أبعد من أن يكون قضية مظلومية خاصة أو عامة، وإنما هي محاولات لوضع العصي في عجلات بدأت تتحرك وإن متأخرة لمغادرة مربع الثأر والدماء نحو توافق وطني وإن كان غير متوازن.



وفي خضم التحولات التي تمت في الأشهر الماضية على الساحة العراقية تبدو الكثير من الأطراف خائفة من تبدل موازين القوى على الارض أو اتجاهها للتوازن النسبي بعد دورتين تسيّد فيهما المالكي وحزبه وأنصاره المشهد السياسي والأمني، كما أن عودة الولايات المتحدة للعراق تبدو أكثر من كونها حربا على (داعش) أو محاولة لإيقاف تمددها، حيث يشعر أنصار المشروع الإيراني أنهم مستهدفون أيضا من التحالف الدولي، لا سيما بعد تصريحات أمريكية وأوربية حول التهميش الذي طال العرب السنة في العراق خلال السنوات الفائتة، وضرورة العمل على تجاوز هذه المظلومية واستعادة جزء من الحقوق المسلوبة منهم، وبغض النظر عن مدى مصداقية وجدية هذه التصريحات أو مرجعيتها الأخلاقية فإن هناك مخاوف دولية من أن يؤدي شعور الغبن والظلم والتهميش الذي يطال العرب السنة في العراق وسوريا إلى حالة فوضى شاملة تعم المنطقة قد يكون المتضرر الأكبر منها المصالح الغربية لا سيما وأن ميدان المعركة يدور في أخطر بقاع العالم وهي (الشرق الأوسط) الغني بنفطه والذي تقوم "إسرائيل" على أرضه.



السلطة التشريعية ومحاولات إخماد الحريق

جاءت حادثة (سبايكر) في وقت كانت الأجواء السياسية والأمنية فيه مشحونة، خاصة بعد التحركات التي أعلنت عنها قوى سياسية لاستبدال المالكي بمرشح آخر من التحالف الوطني، فبدأت بعض الأذرع السياسية والأمنية المحسوبة على المالكي في تهييج الشارع الشيعي، في محاولات لصرف الأنظار عما تم من تفاصيل داخل قاعدة (سبايكر)، وبدأ التحشيد الشعبي في الجنوب وبعض مناطق بغداد، وكانت ذروة هذه التحركات هي اقتحام أهالي الضحايا مجلس النواب بعد تسهيلات قدمتها لهم قوات أمنية، في محاولات لإرباك المشهد السياسي وقطع الطريق على محاولات عزل المالكي، لكن طريقة تعامل رئيس مجلس النواب سليم الجبوري مع التطورات المتلاحقة في هذا الملف استطاعت امتصاص الغضب الشعبي المتزايد من بعض الفئات الشعبية، وتحويل القضية من الشارع وما يرافق ذلك من دعوات انتقام عشوائية؛ إلى قضية سياسية وقانونية ترتبط بالأمن القومي للبلاد، حيث أصدر بتاريخ الثاني من أيلول بيانا أعلن فيه تفهم السلطة التشريعية لمعاناة أهالي الضحايا ومطالباتهم وحقهم في معرفة مصير أبنائهم، وأعلن عن جلسة لاحقة لمجلس النواب لمناقشة القضية وتداعياتها وبحضور أهالي الضحايا وهو ما تم فيما بعد، كما حمّل البيان السلطة التنفيذية والقيادة العسكرية مسؤولية الكشف عن ملابسات الحادث وتوضيح الحقائق لذوي الضحايا.



كما أن اللقاء الذي جمع الجبوري بذوي الضحايا داخل المجلس أسهم في تطييب خواطر الكثيرين منهم، وتوجيه القضية باتجاه آخر بعيد عما كان يراد لها من البعض، وسلط الضوء على حجم التقصير الذي تتحمله السلطة التنفيذية، في تأخرها عن نجدة المحاصرين، والأدوار الغامضة لبعض الضباط والمنتسبين في وقوع المذبحة، وهي ملفات ينبغي أن تتابع قضائيا لا أن تنزل إلى الشارع وتترك لعواطف الناس الملتهبة في مثل هذه الظروف، سواء من هذا الطرف أو ذاك، لا سيما وأن ضحايا العنف يمتدون على طول خارطة البلاد وعرضها ومن كافة المكونات.



ولعل هذه التحركات وتحركات رئاسة الجمهورية كذلك أدت لتطويق الأزمة نسبيا وانقلاب السحر على الساحر، فبدأت حملات واسعة في بغداد والمناطق الجنوبية للمطالبة بمحاكمة المالكي وتحميله المسؤولية، بل ووصل الأمر لدى البعض للمطالبة بإعدامه!.

(
سبايكر) وتوابعها وآفاق المستقبل

وبعيدا عن القراءات الإجتزائية للواقع، فإن ما حدث يبدو جزءا من مشهد مرتبك يقوم على منظومة استراتيجية متكاملة بمداخل ومخارج واضحة أدت إلى النتائج الكارثية التي نعيشها اليوم، فما حصل بعد الإحتلال الأمريكي للعراق من هزّات بنيوية للمجتمع العراقي وما تبع ذلك من ردّات فعل عنيفة، كل هذا يقود بصورة سلسة وواضحة إلى ما حدث يوم سقوط الموصل.



ولعل السؤال الذي يطرح في هذا السياق وينسجم كثيرا مع طريقة التفكير الشرقية هو: هل ما حدث مؤامرة؟ وللإجابة على هذا السؤال لا بد من معرفة أكبر المستفيدين مما حدث في سقوط الموصل وبعدها من تمدد ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في المناطق السنية، والخراب والدمار الذي شهدته تلك المناطق بعد ذلك، وتهجير حوالي مليوني سني داخل العراق وخارجه في غضون أشهر قلائل.



ويبدو أن العراقيين سيظلون يعانون ثمرة خطايا 9/4/2003 وما تبع ذلك من إعادة تشكيل مقصود للنظام السياسي في العراق على أسس غير متوازنة، وزرع القنابل الموقوتة في جسد الدولة ومؤسساتها، ليتراجع مفهوم المواطنة الذي قامت عليه الأنظمة المتعاقبة منذ قيام الدولة العراقية الحديثة على علّاتها لصالح دولة المكوّنات، أو بالأحرى استئثار مكون واحد بالسلطة والثروة على حساب الآخرين.



ولعل من أبرز نتائج هذا التشكيل غير المتوازن للدولة هو إنتاج مؤسسة عسكرية هزيلة ينخرها الفساد، غير قادرة على القيام بواجبها الأخلاقي والمتعارف عليه في كل دول العالم في حماية حدود البلاد؛ التي أصبحت كلئا مباحا أمام دول الجوار كما رأينا ذلك في أزمات متعددة، مقابل استئساد الكثير من عناصرها على مواطنين أبرياء عزّل في بعض المناطق.



ولا يبدو الحل سهلا مطلقا، فالتركة (المالكية) تنوء بحملها كواهل العراقيين جميعا، ويبدو أن سنوات طويلة ستمضي قبل أن يستطيعوا إخماد نيران الثأر المشتعلة في نفوس الكثيرين منهم بسبب الحروب والصراعات التي أشعلتها سياسات نوري المالكي.



والسؤال الحقيقي الذي يجب أن يقف أمامه العراقيون طويلا بعد سنوات الدم والنار هذه: أيهما أجدى لإيقاف النزيف وعلاج تداعياته الخطيرة: هل هي في عقلية الثأر ونكء الجراح، أم في ترميمها وإعادة الحقوق إلى أهلها ومعاقبة المسيئين أيا كانت إنتماءاتهم، وإقامة حكم عادل يعطي كل ذي حق حقه؟ الإجابة على هذا السؤال ستختصر الكثير من الدماء والأوقات والأموال، وهي كفيلة بإعادة الاستقرار لربوع بلاد الرافدين بعد حقبة سوداء عجفاء أتت على الأخضر واليابس.