الماضي جميل والمستقبل مجهول
  •  

    يبدو ان الحلم اصبح من الامور التعقيدية ولا يولج الى مخٌيلة الانسان حينما يتمنى ويتأمل للعيش بحياة نحو الافضل وهذا شيئاً بسيطا ولانعتبره واجبا يكلف به الانسان , الكثير منا يمتلك عنصرين مهمين هما الارادة والعقل فالعقل يبصر ويختار ويتجنب ويجامل على قدر ما تحققه رغباته دون ان يجد الضرر فالعقل هو الذي يوجه الانسان بما يراه مناسبا ومفيدا , والارادة هي التصميم والتخطيط منذ الصغر او في مرحلة من المراحل العمرية الاخرى لتحقيق سياسته وصولا الى هدفه بعد العناء والصبر وترك ماهو مفسد من الامور وصولا الى رغباته المشروعة , فكلنا نحلم بان يكون لدنيا مستقبلا زاهرا نرى فيه أفق الخير والسعادة ونطمأن لمستقبل اولادنا ونحصن بلادنا من جميع الافات والامراض التي تهتك الاوطان , ونتخلص من الماضي المميت ونحن نتذكر لوعته من الفقر والبساطة وقلة المردود المادي املا بأشراقة مستقبل يكون ظله علينا وينقذنا من الظلام والظلم ويأخذنا الى حيث النور والعدل , ولكن دون جدوى ولازلنا نعشق الماضي على الرغم من طياته وسنينه العجاف وبساطته فانه مرآة الحقيقة والنية الصافية وتشابك الايادي البيضاء فيه , احدهم قال ان من يهضم الماضي بطريقة خاطئة يتقيأه المستقبل, ويقول العلامة الدكتور علي الوردي رحمه الله (نحن لا نعود الى الماضي لجماله بل لبشاعة المستقبل ), لو استطرقنا شطرا من الماضي بكل جوانبه نجده صورة جميلة تتجلى فيها ابسط معاني العيش واعذب المشاعر الانسانية فيها المساعدة والامانة والنزاهة ونقاوة السريرة , كنا نجلس في دار مساحتها صغيرة نستمع الى رب الاسرة وهو يتكلم عن معاناته اليومية نفتح ابصارنا ونخلد للنوم معاً في بساط ورداء واحد وحسب التسلسل العمري كنا لانحب السهر ولايوجد ما يسامرنا ويسرق منا النوم ,سهرتنا لغاية العاشرة وليلينا طويل , نستيقظ نشطُين نذهب للمدرسة بشوق واول ما نر معلمنا يسير باتجاه المدرسة نهرب منه خوفا الى عكس ما يسلكه من طريق ونحن ابرياء لم نرتكب ذنبا , كانت زيارات الاهل والاقارب متواصلة فلم يمضي عيداً حتى تشعر بان بيتك قد امتلىء ضيوفا , كان معظم الناس يشربون الخمر ووسائل الترفيه والمنتديات الثقافية واسعة من مسرح وسينما ومعرض فالقاعات لم تكن مزدحمة بالناس لسبب ان حقول المعرفة منتشرة في كل مكان , ولكننا لم نر رجل سقط على الارض مضرجا بدمائه لسبب مشاجرة بسيطة ولم نسمع ان شجارا استمر ساعتين سقط فيها ثلاث قتلى ومجموعة من الجرحى ,وما رأته عيني قبل فترة في منطقة من مناطق بغداد نصبت الاسلحة الثقيلة وتحزم الرجال المقاتلين بجعب الرصاص للهجوم على أحدى الدور لسبب لايستوجب ذاك الحشد والاعتداء لانه شتم ابن فلان شتما مبرحا ,وجميع المشاركين بالقتال من الطرفين كانوا يؤدون مراسيم الزيارة من طقوس وشعائر ولهم مواكب معروفة مع العلم انهم لايشربون الخمر , كنا في الماضي نتفقد الاخ والصديق واذا مرض احدا منا ضج البيت بالدعاء والسؤال فالنساء والرجال يزورن المريض ويدعون له بالشفاء لايوجد في منطقتنا اطباء اختصاص وبفضل دعاء الجدة والمرأة العجوز وهي ترفع يديها مبتهلة له بالشفاء فيشفي المريض كانت ايادي الرجال والنساء بيضاء لاتعرف الا العمل, سمراء عليها علامات التشقق والتصلب من كثرة ما استخدم من المعاول والفؤوس لطلب الرزق الحلال , اليوم ترى مساحات البيوت كبيرة والكراسي والمناضد خالية لايسكنها اي احد هذا قد سافر وهذا قد هجر وهذا ترك الدار , تمر اعيادنا وكأنها احزانا لا نر فيها من يتفقدنا ولو تفقد احدا بيتا كان بالباب واقفا , كنا نفترش الارض بسفرة واحدة نجتمع معا نأكل ابسط ما اطعمنا الله ونشبع وضحكتنا يسمعها الجيران , واليوم سفرتنا فيها جميع الاصناف والالوان والدار خاوية , والمساحة فارغة , لم يبقى فيها الا الذكريات وهمسات الماضي وهي عطر معلق في سقوف الدار, اتمنى لو يملىء المكان اهل الدار , ونعيش بضل وأمان, ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه , اصبح الاخ لايتحمل اخاه عن اي حالة ولم يصبر على اذاه تناسوا ما قاله الامام علي عليه السلام (احمل اخاك على سبعين محمل ) ماضينا مؤلم بالفقر والبساطة ولكن مشٌبع بالحنان والامان وفيه من المآثر الخالدة والسامية, مستقبلنا مجهول وحاضرنا بشع غريب قلَ فيه الصدق وكثرت فيه الخيانة وزدادا الفساد ونجد ان التحصن من المعصية في هذا العصر صعبا جدا , ربما الغرب ودول اخرى تجد المستقبل علامة مشرقة في حياتهم والماضي لايتذكرونه ولايحنون لعودته كما قال المفكر تشارلز سوينول (ليست لدي أي رغبة في العودة الى الماضي , فأن اعشق جمال وراحة الحاضر, ولن اعود الى يوم امسي حتى ولوكنت قادرا على ذلك ) نحن نعمل على عكس ما يطلقه الفلاسفة من رغبتهم للتخلص من ماضيهم وأملهم في مستقبل زاهر , فقد وصف امير المؤمنين علي عليه السلام المستقبل وقال ( يأتي على الناس زمان تكون العافية فيه عشرة اجزاء , تسعة منها في اعتزال الناس , وواحدة في الصمت ).