فيدراليات الانتهازيين وتمضهرات تفكك مقومات الدولة

في خضم الاستفزازات السلطوية واستحالة الوفاق والاتفاق بين الأطراف النافذة وتكافؤ موازين القوى على الساحة السياسية, وفي ظل هذا الكم الهائل من التحشيد الطائفي للشارع وتجييشه بعضه ضد بعض, مع انعدام الروح الوطنية للكثير من الساسة والتمترس خلف القوى الإقليمية وتبني إراداتها المتضادة مع الإرادة الوطنية, فان الدولة العراقية باتت قاب قوسين أو أدنى من التفكك, وبدأت إرهاصات التشظي والتمزق المصحوبة بشحن "طائفي – قومي" خطير ينذر بما لا تحمد عقباه, وان ما يشهده العراق أليوم من اضطراب الوضع هو ليس نتيجة أزمة عابرة اعتاد الساسة على معالجتها بأساليب بدائية دون الخوض في أسبابها كالتجاهل والإنكار والإخفاء والتفتيت لتولد من رحمها أزمات أخرى اشد وطأة, وإنما هي نتيجة حتمية للأساس المتداعي الذي بنيت عليه العملية السياسية ونظامها الفيدرالي وأفضت إلى دولة ضعيفة يتهددها خطر التفكك وتداعي مقومات وجودها. تجليات تفكك مقومات الدولة تمضهرت بتسيد المسرح السياسي فئات انتهازية وصبية السياسة وجهالتها والتأسيس لديمقراطية فوضوية ومحاصصة حزبية بشعارات طائفية ... بدستور قالوا انه كتب على عجل وسبع سنوات لم يقلبوا صفحاته لإصلاحه وظل يفسر على الهوى والمبتغى لينقلنا من أزمة إلى أخرى ...... وبرلمان إلغاءه أفضل بكثير من بقاءه, ليس سوى واجهة ديكورية لديمقراطية زائفة يستنزف المال العام دون عمل يذكر ... وحكومة أشبه ما تكون بمجلس إدارة لشركة فاسدة من شركات العالم الرأسمالي, موازناتها الانفجارية تذهب حصص ومغانم على مضاربي بورصة العملية السياسية ترتفع وتنخفض أسهمهم بقوة الولاء والملفات السوداء التي يجمعها كل طرف ضد الأخر, سماتها انحدار شديد في الأداء وارتفاع خطير في مؤشرات الفشل, وقدرتها الفائقة على تعطيل عجلة النمو والتطور, فليس لها من البرامج والخطط سوى الإنفاق والإنفاق على مشاريع لا نرى أثرا لها على ارض الواقع, وارتخاء عصب قبضتها في كل المؤسسات والقطاعات لصالح الفئات الحزبية والقبلية وطفيليات المجتمع, حتى تبوأت مكان الصدارة في سلم الدول الفاشلة عن جدارة واستحقاق ... والطامة الكبرى في نظام فدرالي لقيط لا نعرف أصل له ولا نسب من بين كل الأنظمة الفيدرالية في العالم بدستور يسمو على دستور السلطة الاتحادية وقوانينها, وعلاقة طفيلية يعتاش فيها الإقليم على المركز ويقدم الحافز والمغريات لكل انتهازي غثيث للتمادي والحط من هيبة الدولة وإلا فالتفدرل مع المتفدرلين ليحظى بالجائزة الكبرى, جائزة الانفلات من قيود السلطة الاتحادية فيحكمون ولا يُحكمون, وسلطان على المركز ولا سلطان للمركز عليهم شعب طعن بوحدته في الصميم وجردت عنه صفة المواطنة بدستور المكونات, وجزء إلى عرقيات وطوائف وكوتات, واقتيد عنوة إلى دهاليز الطائفية المظلمة, في جو من الشحن الطائفي العنيف هز توازنه واختلت مقاييسه, وأضحت طوائفه أثنيات منفصلة ومنعزلة ترتاب إحداهما من الأخرى وتعيش هواجس الخطر الداهم من محيطها, ولا حول لها ولا إرادة إلا بالتكتل خلف زعماءها الموتورين, فهم حماة الطائفة وهم وحدهم من يحافظ على بقاءها حسبما يزعمون, الشعب ابتلع الطعم, وتمترس خلف ممزقي وحدته وانساق يرفع شعاراتهم وتبنى أفكارهم الهدامة, وتخلى عن البرامج والأهداف واتبع الشخوص والشعارات, وانسلخ عن وطنيته واستبدل الولاء للوطن بالولاء للطائفة. أما الأرض التي جمعت العراقيين منذ آلاف السنين فما عادت قادرة على استيعابهم بما رحبت, نزاع كنزاعات القبائل البدائية في العصور الغابرة, كل يدعي أحقيته بالأرض دون الآخرين, ومن يتجرد عن الأرض ومن يحظى بها هم أنفسهم أبناء الوطن الواحد ... وتفشى وباء سرطاني خبيث معد يسمى "المناطق المتنازع عليها", فهذا رمز وحدة الوطن، وممثل سيادته، والساهر على حماية دستوره، والمحافظ على استقلاله وسيادته ووحدته وسلامة أراضيه حسبما يصفه الدستور, يدعوا إلى تحرير كركوك من محتليها الجدد, "تحرير ارض الوطن من أبناء الوطن" ... ثم يقدم على طرح مشروع قانون مثير للجدل والفتنة والاضطراب, لترسيم الحدود بين المحافظات التي رسمت لأسباب إدارية بحتة, فيستثني مناطق ويشير إلى أخرى كانت بمنأى عن هذه المنازعات, وسرعان ما تنتقل العدوى وتصيب محافظين وسلطويين فوضويين تسرطنت عقولهم بهذا الوباء, وكل يمني النفس بانتزاع بقعة من الأرض ليخرج بنصر مزعوم يحفظ ماء الوجه المنسكب بضعف الخدمات وتفشي الفساد. ويعزز بروز ملامح السلطة الاستبدادية في ارتفاع حدة المطالبات بالفدراليات وانتقالها من دهاليز الساسة إلى الشارع للتهرب من مزاجية الحكومة المركزية وانتقائيتها في معالجة الأوضاع والفساد وسوء الأداء, لتنأى كل طائفة عن خطر الطائفة الأخرى المصطنع, "وان كان كل ما يجمع الساسة الآن حول الحكومة المركزية هو مغانم عائدات النفط الهائلة والتباين الجغرافي بين الأقاليم في توزيع الثروات", وتحول "النظام الفدرالي" من نظام متطور لإدارة الدولة يسعى لاختصار الحلقات البيروقراطية الزائدة إلى أداة للتمزق والتشرذم, فإذا ما تمتعت هذه الفدراليات بنفس صلاحيات "إقليم كردستان" فلن تجد بغداد بعد ذلك ما تحكمه وتتلاشى حكومتها المركزية, وستنتهي هذه الفدراليات بعد حين بدويلات متصارعة على الأرض والثروات والمياه كما مخطط له أن يكون تتآكل بصراعات دامية, صراع قومي بين العرب والأكراد وآخر طائفي بين الشيعة والسنة, ستراتيجية رهيبة للتدمير الذاتي للدولة العراقية لتقزيم دورها وإبقائها بعيدة عن الاستحقاقات العربية والدولية, ومن المؤسف إنها تنفذ بأيدي ساسة عراقيون ينقادون لتنفيذها بعضهم عن قصد وإصرار وعمالة وخنوع, وآخرون لا يمدون بأبصارهم إلى ابعد من أرنبة أنوفهم, انبهروا بالسلطة ومغرياتها وتصرفوا معها كطارئين وضعتهم الأقدار في مناصبهم, وما عليهم إلا اهتبال الفرص ومغادرة السلطة بأعظم المغانم, ضاربين بعرض الحائط وحدة الوطن ومصلحة أبناءه.
خالد الخفاجي رئيس الرابطة الوطنية للمحللين السياسيين