عرف الموسيقار الروسي بورودين بأنه أحد أبرز موسيقيي جماعة الخمسة الكبار التي تشكلت عام 1860 وكانت تضم بالإضافة اليه كورساكوف وبالاكاريف وغيرهم، والتي ألقت بظلال أفكارها وقوالبها على عالم الموسيقى الروسية ومؤلفيها خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. عاش بورودين للفترة من (1833-1887)، ورغم نبوغه وإنشغاله بمجال إختصاصه العلمي الأساسي كباحث في الطب والكيمياء ورئيس لمختبر الكيمياء بأكاديمية الطب والجراحة الروسية التي حصل منها على شهادة الدكتوراه ومرتبة البروفيسور، بالإضافة لتأسيسه لأول دورات تعليمية للنساء في مجال الطب، وتخصيصه لعطلة نهاية الأسبوع فقط لا غير لتأليف الموسيقى،إلا أن ذلك لم يمنعه من تأليف العديد من الأعمال الموسيقية الرائعة، أبرزها سمفونيته الثانية من مقام B الصغير، والتي تمتاز كأغلب أعماله باحتوائها على مجموعة ساحرة من الألحان الفلكلورية الروسية والتلوينات الصوتية، وباستعمال النغمات المُزدوجة والأوكتافات والتآلفات الهارمونية بكثرة مع بساطة في البناء، وهو الأسلوب الذي يميز الموسيقى الروسية بشكل عام، وموسيقى تلك الفترة بشكل خاص،وسنتناول هذه السمفونية هنا بشيء من التفصيل لكونها تمثل النموذج الأنسب لفهم طبيعة وتركيبة أعمال بورودين.
الحركة الأولى مِن السمفونية سريعة تبدأها جملة موسيقية مهيبة تبدوا كأنها صرخة من القدر تحمل مسحة من الخوف والقلق، تليها جملة فيها مسحة من الفرح والتفاؤل تبدوا وكأنها جواب مطمأن لسابقتها، ومن تناوب وتناغم هاتين الجملتين يتألف لحن الحركة الأول والرئيسي الذي يتباطأ قليلاً ليسمح بدخول اللحن الثاني الأبطأ والأقصر نسبياً مقارنة بسابقه، والذي يبدأ به التشيلو ثم الكلارنيت ثم باقي الأوركسترا، ليعود بعدها اللحن الأول صعوداً، وليوصلنا لنقطة يعلن عبرها الإيقاع ببدء مرحلة من الألحان المتفاعلة المبنية على اللحنين الرئيسين والأول تحديداً، لكن بتنويعات موسيقية جميلة تتجلى بها براعة بورودين بخلق جمل لحنية مختلفة، وإعادة توزيعها بين آلات الأوركسترا المتعددة، والتي تأخذنا الى نهاية الحركة التي تختمها الأبواق والوتريات باللحن الأول الرئيسي.
الحركة الثانية قصيرة وتبدأ مندفعة بلحن سريع تعزفه الهوائيات باندفاع وبمرافقة ضربات الأصابع على الوتريات، بعدها يصل اللحن لنقطة ذروة يبدأ بعدها بالتباطؤ تمهيداً لدخول اللحن الثاني الفلكلوري الساحر بواسطة الهوائيات أيضاً، والتي كان لها القدح المعلى بهذه الحركة، ويتكرر اللحن بواسطة الوتريات بدئاً بالتشيلو ثم الكمان صعوداً بإنسيابية وشاعرية تنفرد وتتميز بها المدرسة الروسية، لكن سرعان ما تقطعها عودة اللحن الاول السريع باندفاع أكبر لتنتهي به الحركة كما بدأت.
الحركة الثالثة أبطأ من سابقتيها، وتبدأ بلحن تراثي هاديء على الكلارنيت بصحبة البوق والهارب وبإيقاع غير منتظم. بعد ذلك يتغير اللحن بدخول نغمة جديدة قلقة تعزفها الهوائيات بمرافقة إهتزازات الوتريات، والتي تتناول دفة اللحن شيئاً فشيئاً لتعيدنا الى اللحن الأول بمصاحبة بقية الآلات. بعد ذلك تبدأ الأوركسترا مرة أخرى بعزف ألحان سريعة قبل أن تنهي الحركة بنفس اللحن الهاديء الذي تعزفه الهوائيات بتتابع وشاعرية وعذوبة.
الحركة الرابعة هي أطول حركات السيمفونية وأسرعها، لحنها الأول الحيوي المقتبس من الحان فلكلورية راقصة تبدأ به الأوركسترا كاملة، أما الثاني فيبدأ به الكلارينيت ويعيده الفلوت لتتلاقفه الأوركسترا وتعود بسلاسة للحنها الأول. يركز بورودين بهذه الحركة على التلوين اللحني بين الهوائيات والإيقاع والوتريات التي تعيدنا في الختام الى اللحن الأول ثم الثاني عبر جمل لحنية سريعة مختصرة مقتبسة منهما لتنهي بها الحركة بنفس الحيوية التي بدأتها بها.
مِن خلال ملاحظة أغلب أعمال بورودين يمكننا القول بأنه ربما كان يتعامل مع الألحان الموسيقية بطريقة مشابهة لتعامله مع المركبات الكيميائية، فهو على ما يبدوا كان يقوم بإستلهام وإبتكار الألحان التي يريد أن يؤلف منها المقطوعة، روسية كانت أو فلكلورية أو شرقية، ويحفظها معاً في مدوناته ويضيف اليها بعض الزخارف اللحنية، ثم يقوم أخيراً بمزج وتوزيع هذه الخلطة أوركسترالياً بما يشبه عملية مزج العناصر والمركبات الكيميائية التي نبغ بها بورودين كإبداعه بالموسيقى. لذا وبسبب تعدد نشاطاته وإرهاقه بالعمل توفي فجأة أثناء حصوره لحفل خيري عام 1880، وهو ما حال دون إتمامه لبعض مؤلفاته الموسيقية، فأكملها من بعده بعض زملائه الموسيقيين كغلازنوف وكورساكوف، كما حصل لسمفونيته الثالثة ذات الطابع الرومانسي، وأوبرا "الأمير ايغور" الشهيرة برقصاتها البلوفتسيانية. هذا بالإضافة لما أتمه وأنجزه بنفسه مِن أعمال كقصيدته السمفونية الشهيرة "جولة في سهوب آسيا الوسطى"، وبعض أعمال موسيقى الحُجرة كالرباعيات الوترية وثلاثيات الوتريات مع البيانو، ومقطوعات بيانو منفردة، وهي أعمال يحتاج بعضها لوحده الى مقالات تفصيلية.
|