إشكالية التسامح

لم اتعود الكتابة في المناسبات، بما فيها المناسبات الجليلة والانسانية والحميمة، والبغيضة ايضا. لديّ مشكلة هي اشبه بالحصانة ضد مثل هذه الكتابات التي دنس بعضها وعّاظ السلاطين، أو، لربما لكثرة من يكتبون ترحيبا، أو ذما، او تذكيرا، وفي كل الاحوال، عودت نفسي ان اغيب عن المناسبات، لكن لا اغيب عن موضوعاتها، على اية حال.
هكذا مرت، الاسبوع الماضي، مناسبة اليوم العالمي للتسامح، وهي مناسبة من اخطر المناسبات التي تهم العراق ومستقبله وشعبه، لسبب بسيط ان التسامح، كمواقف وثقافة ونصوص وتشريعات، متداولة الآن (كشعارات) على نطاق واسع، لكنها كترجمة الى الواقع الملموس في امثلته الحية تصل حد التحريم والحرج، لأن الكثير من الكلام عن “المجرمين والقتلة والملوثة ايديهم” سيقف مثل علامة مرور تقول “الطريق مغلق” ثم ينتقل الجدال الى سؤال لا جواب له: مع مّن نتسامح؟ وهل تسامحوا معنا في الماضي؟.
بعبارة واحدة، ان التسامح كمنظومة من العقائد والالتزامات والظروف التاريخية الخاصة، يبدأ من استعداد الضحايا للتخلي عن تجريم الجلادين، ما يعطي الفرصة والبيئة للجلادين انفسهم لمراجعة ذنوبهم والاعتراف بها والاعتذار عنها، في سلسلة من العمليات الثقافية والتاريخية.. تلك هي المعادلة “الاشكالية” التي لايخوض فيها الكثير من المعلقين والكتاب، ويتجنبها السياسيون الذين يشيدون رصيدهم ونفوذهم على قاعدة الكراهيات والسعي للقصاص وسد منافذ الاوكسجين على الجناة، ورد حقوق الضحايا.
وفي اكثر من مرة تحدثت عن مسرحية “الموت والعازبة” التي عُرضت بلندن عام 1990 وهي مسرحية تشيلية أبطالها ثلاث شخصيات وهم المحامي جيراردو، وزوجته بولينا سالاز والطبيب ميراندا، حيث ُوكل للمحامي (الزوج) جيراردو مهمة المشاركة في لجنة تحقيق بالجرائم التي ارتكبتها دكتاتورية أغستو بينوشيت وكان من دُعاة التسامح ويريد أن يخرج من هذا التحقيق مع الجلادين بما يرسِّخ السلم الأهلي في العهد الديمقراطي الجديد. يصادف المحامي وهو في الطريق إلى منزله ليلا أن تتعطل سيارته في مكان محرج وبعد ساعات طويلة من الإنتظار تقف إلى جانبه سيارة فيقدم صاحبها (الدكتور ميراندا) عرضا بالمساعدة في إصلاح عطل السيارة، وهكذا، يبادر المحامي إلى دعوة الطبيب إلى منزلة لتناول كوب من الشاي بهدف التعرّف عليه، وهذا ما حدث، إذ تقبل الزوجة للترحيب بالضيف فتفاجأ وتصرخ قائلة: إنه جلادي، ثم تصاب بالهستيريا إذ تتذكر كيف اغتصبها هذا الطبيب في زنازين الفاشية وعذبها، فيما يحاول المحامي الزوج أن يقنع زوجته الضحية بأن تصفح عن جلادها لطي صفحات الماضي البغيض، لكن بولينا سالاز تفقد السيطرة على نفسها فتمسك بالمسدس وتهجم على الطبيب الجلاد وتوثقه على كرسي وتدخل معه في حوار وحساب واستذكار. والمهم ان المسرحية اثارت جدلا واغنت موضوعة التسامح الذي لن يتحقق من دون طي صفحات الماضي على قاعدة ان التسامح هو المستقبل.. هذا في تشيلي.


" أشد الناس حماقة أقواهم اعتقاداً في فضل نفسه، وأثبت الناس عقلا أشدهم اتهاماً لنفسه".

ابو حامد الغزالي- فيلسوف وفقيه اسلامي