عشر زهرات ... بقلم/ وليد خالد احمد

كانت تحلم بالسفر، وترسم له في وجدانها خيوطاً من نور، حتى صديقاتها وعدتهم بدمى، قالت ستبتاعها من هناك، عمها، اضاف الى هذه الامنية التي ترعرعت معها وكبرت مع الايام، تأكيداً، بأنه سيصطحبها معه في الاجازة القادمة. وكانت كلما سألت عن موعد الاجازة، تقول لها امها: بأنها ستحين بحلول عامها العاشر، والعام العاشر سيكون غداً.

خرجت الى حديقة الدار، تدعو النجوم التي احتضنت السماء مبكرا هذه الليلة، تدعوها لكي ترحل بسرعة، وتسمح للفجر ان يطل، كانت هذه الليلة تملأ السماء، وأمل، تود ان تكون السماء هذه الليلة بدون نجوم.

عقرب الساعة يشير ببطئ شديد الى الثامنة مساء، وقلبها الصغير يدق بسرعة، واغنية تنساب بعيدا هي الاخرى ولا تحث الزمن الاتي ان يأتي بسرعة.

تكومت في مقعدها كعاشقة، تعاقب الزمن عن ذلك المختبئ وسط النجوم، ولا يود ان يهبط الا بحلول الصباح، حتى جدها الذي تحبه كثيراً، لم تكترث لمقدمه، وكأنه السبب في اطالة زمن هذه الليلة.

همس لها، بأنه سيأخذها معه في الحال، لتشرف بنفسها على حفلة عيد الميلاد.

وهل احضرت الشموع، قالت امل، ثم احتضنته، ربما، لكي تختفي بين احضانه هاربة من هاجس التوتر الذي ما انفك هذه الليلة يعصر قلبها الصغير.

ترقرقت الدموع في الحدقتين، ثم ما لبثت ان تجمدت في المقلتين فبدت عيون الشيخ من خلف زجاج النظارة، كغيمة توشك ان تمطر.

نسيت ان تودع امها، او حتى ان تستأذن منها في ان تبيت هذه الليلة عند جدها. تذكرت ذلك وهي تحدق في السماء من خلال زجاج السيارة.

الشوارع بدأت تفرغ حمولتها من المارة، والمصابيح المصلوبة على جانبي الطريق، تواصل دونما ككل، اقتحام الظلام، تشير الى الوقت، بأنه لا يمضي ابداً، يضحك الجد ثم يدوس بقوة على دواسة البنزين تفرح امل لاندفاع السيارة فتحثه على الاسراع اكثر.

قالت امل، وهي تهبط كعروس اسطورية من السيارة: بأنها ستمكث هذه الليلة في حديقة الدار، تعد النجوم حتى العاشرة. وماذا بعد العاشرة قال الجد.

قالت: وعندها سأصبح في العاشرة.

جدتها التي تشكو من صداع مزمن، هرعت تفتح الباب، وقلبها ايضا، حتى خالها الذي اعتاد ان يحتجب تماماً في غرفته في مثل هذا الوقت من كل عام، ترك دروسه وركض يسبق الجدة، لأن القادمة امل، عانقها بحرارة ، وتأمل شعرها الطويل الذي يبدو هذه الليلة قد نما اكثر.

ابتعدت عنه قليلاً واتجهت نحو المرآة كأي امرأة تمسح وجنتها من خدر التوهج.

لم تنزو كعادتها في مقعد بعيد.. بل اختارت هذه المرة ان تتصدر غرفة الجلوس، وتطلب على الفور، كوباً من الشاي.

فوجئت الجدة، لكنها فرحت كثيراً لأن امل تخطو سريعاً نحو العاشرة، والاطفال بعد العاشرة يكبرون بسرعة، تلملم الجد في عباءته يتابع الاخبار، والجدة تتابع امل، وهي تهمس في فرح شديد، بانها غداً ستقطف عشر زهرات من الحديقة.

الساعة العاشرة والنصف، والافق مازال يحتضن النجوم، ورياح خفيفة باشرت لتوها تداعب اشجار الحديقة، الساعة تعلن ببطء، شديد الواحدة صباحاً، وسكون مفاجئ هبط على المدينة، والاضواء تنطفئ من النوافذ المجاورة، وامل، تتسلل في حجرتها حافية القدمين، ومتجهة بحذر شديد الى الشباك لتراقب فيما اذا كانت النجوم قد اختفت تماماً، تشعر بالقلق وهي تزيح جانباً الستائر الكثيفة التي كانت تحجب الرؤية تماماً.

السماء كانت شبه ملبدة بالغيوم، كانت تثير الشجن واللوعة معاً، فشعرت بالخوف يسري في كيانها كله، وكادت تصرخ الا انها اسرعت الى جدتها، الخوف انطبع على ملامحها، فبدت شاحبة حتى اناملها الرقيقة بدت ترتجف ، احتضنتها جدتها، فاحتضنت بدورها دميتها المفضلة.. ثم شرعت تعلن لها في كبرياء بأنها غداً ستصبح في العاشرة.

الساعة تعلن الثانية والنصف صباحاً، نهض الجد من فراشه على صوت هزة ما... او هكذا خيل اليه، اتجه نحو الشباك يكتشف الامر، رفع بصره الى السماء التي تحولت الى نجوم ملتهبة فرك عينيه، لأن هذا المشهد، يعود الى مشاهد الصبا في الذاكرة المنسية، او مجرد حلم عابر من هاجس ما نفك يلازمه منذ ان ادى الخدمة العسكرية منذ اربعين عاماً خلت.

ازيز طائرات تقترب ، شهب قوية تطاردها ، ونجوم في السماء تنفجر بقوة فترسل الصدى الى كل مكان.

امل تصرخ، والجدة كذلك، والجد يركض نحو الباب... فلقد تأكد لديه، ان ازير طائراتهم المغيرة، قد تفرغ حقدها الدفين فوق رؤوس الابرياء ، خطواته كانت قوية، وصرخاته تملأ المكان كله.

الطائرات تقترب يكاد يبصرها ثم ترتفع ، اعتقد بأنها قد فرت هاربة... لكن شيئاً ثقيلاً... وكالنار... كالجحيم سقط على الحي... ثم لم يعد يذكر شيئاً.

القادمون من بغداد وما خلفها نفذوا مهمتهم وتحول المكان الى ركام... والحديقة الجميلة الى كومة من نار. هرع الجميع الى الركام، فوجدوا امل تحتضن دميتها الجميلة وعيناها غارقتان في ابتسامة.. وجدها فقد وجدت يده اليمنى تقبض على حفنة من تراب.