جدار برلين ينادينا

|بعد خمسة وعشرين عاما من سقوط جدار برلين في 9\11\1989 , والذي بدأ بناؤه في 13\8\1961 , لصناعة الألمانيتين, أقف أمام بقاياه متأملا , وسط حشود ألمانية موحدة , متوجة بالعزة والكرامة والقدرة على تحقيق الإرادة.

ألمانيون يعلنون للدنيا أن الهزيمة ليست من مفردات لغتهم , وما يريدونه يكون ويتأكد بتفاعلهم الوطني الخلاق , فالحرية والعزة والقيمة الوطنية والتأريخية والدور الإنساني المنير سلوك عقائدي لا ينتصر عليه أي إقتدار أرضي.

فما قيمة الجدار , وهل يمكنه أن يصمد أمام الطاقات الوثابة المتظافرة المتدفقة من أعماق الإنسان الواعي المؤمن بذاته ووطنه وجوهر رسالته الحضارية.

ألمانيون يقفون بكبرياء الأبطال , وينظرون بعزيمة الأجيال , ويبتهجون بقدراتهم الوطنية , وعزيمتهم التي لا يمكن لجدران القِوى الكبرى أن تشطرها , لأن الروح الألمانية ذات طاقات وطنية حضارية تأريخية متنامية , لا تستطيع أن تقف أمامها المعوقات والجدران.

ألمانيون يعملون بجد وإبداع وإجتهاد وإخلاص ومثابرة , لبناء الوطن الجميل المتباهي بعمرانه وتأريخه , ومساهماته المعاصرة في ميادين الحياة المتنوعة , فهم لا ينكرون تأريخهم , ولا يمسحونه , بل يجعلونه مدرسة معرفية وفكرية , وينابيع إعتبار وحكمة وتبصّر للوصول إلى الأعظم!!

فما أزالوا الجدار بأكمله , وإنما تركوا بعضا من معالمه , كشواهد للأجيال , وأبقوا علائم واضحة تشير إليه , فأساسه يمتد في ذات المكان الذي مضى فيه متعرجا ليشطر برلين إلى مدينتين , شرقية وغربية , ويمكنك أن تفرج ساقيك وتمد يديك فوق معالم الأساس وتلتقط صورة تشير إلى ذلك!!

وفي هذه الذكرى نصبت أعمدة , حسبتها ضوئية , لكنها ذات أفكار ألمانية متوجة ببالونات (نفاخات) بيضاء , إمتدت على طول أثر ذلك الجدار , وإنطلقت في فضاء برلين مع المناطيد في يوم الإحتفال , برمزيتها اللونية والكروية والتحليقية , التي تشير إلى أن الإرادة الألمانية تزيل العوائق كالبالونات , لأنها إرادة ذات عزيمة مطلقة.

هذه أمة حضارية معاصرة , أزالت جدران العزلة والفرقة , ومراكز المراقبة الشرسة الفتاكة , بعملها الوطني العفوي , وبتراكم معطيات الإرادة الخيرة الواعية , المؤمنة بالمستقبل الأقوى والأفضل , فارتعب الجدار , وإنهارت الحواجز ونقاط التفتيش , وتمكنت معاول الإصرار من تحطيمه , وإزالته إلى الأبد , ولهذا ولدت ألمانيا الأقوى والأعظم , وبقيادة إمرأة من ألمانيا الشرقية (سابقا), برغم ما لحقها في الحرب العالمية الثانية , وإنطلقت في القرن الحادي والعشرين , بكبرياء حضاري متميز.

وبين ما حصل في برلين قبل ربع قرن , وما يجري في بعض مجتمعاتنا منذ ربع قرن , تفاعلات ذات إتجاهات متعاكسة , فمجتمعاتنا ما إستوعبت رسالة جدار برلين , وأمعنت في بناء الجدران النفسية والعاطفية السميكة , وبعضها تمزقت إلى درجة مشينة ومخزية ومهينة , حتى أصبح أبناء الوطن الواحد الذين عاشوا معا بروح وطنية إنسانية , كالشظايا المتناثرة المتنافرة المتقاتلة , ويتم الإمعان ببناء الجدران الإندحارية الإنخذالية في زمن تتهاوى فيه جميع الجدران , وتذوب البشرية في بودقة التفاعل العولمي الإنساني المعاصر.

فكيف تمعن بعض مجتمعاتنا ببناء الجدران وتدّعي الإنتماء لبني الإنسان؟!!