حقيقة تجنيد داعش للشباب العربي

يصعب فهم انجذاب الشباب العربي والمسلم نحو تنظيم "الدولة الإسلامية" أو ما يعرف بداعش. ويفترض الكثيرون أن الدين أو وسائل التواصل الاجتماعي هما الدافع الأساسي للعدد المتزايد من الأشخاص الذين يقلبون حياتهم رأساً على عقب للانضمام إلى الجهاديين في العراق وسورية. ولكن الأسباب كثيرة وان توحدت الروايات. طبعا هذا فضﻻ عن عوامل الدعم والدعاية لﻻجندات اﻻمبريالية واﻻنظمة الرجعية لداعش.


هناك خمسة توجّهات بارزة – لا تشمل الفقه أو التكنولوجيا – قد توضح أسباب هذا الانجذاب القاتل نحو الدولة الإسلامية. إن إدراك هذه التوجّهات والتفاعل مع نتائجها ضروري لكسب الحرب ضد الإيديولوجيات المتطرفة.


أوّلاً: فشل أنظمة التعليم العربية في تناول العديد من الاختلالات والعيوب في العملية التربوية. فعوضاً عن غرس الوعي المدني ومبادئ المواطنة وقيم التضامن الاجتماعي والقبول بالآخر والتركيز على المهارات التحليلية الضرورية والتفكير النقدي، اعتمدت مناهجها على أساليب التلقين النظري بدلاً من التفاعلي، وعلى التقبّل غير النقدي لفكرة السلطة الهرمية من دون مساءلة.


كما عزّزت مناهج التاريخ والتربية الدينية عقلية "نحن" في مواجهة "هم"، على أسس عرقية وإيديولوجية وطائفية، مما جعل الشباب عرضة إلى التأثيرات المتنوعة وساهم في تغيّر المشهد الثقافي العربي بشكلٍ جذري، وسهّل انتشار الإيديولوجيات المتشدّدة والتلقين العقائدي المبكر للأطفال والشباب.


ثانياً: فرض انعدام الفرص الاقتصادية وضعف نظم الرعاية الاجتماعية التي توفّرها الدولة، على المواطنين العرب اللجوء إلى أطراف أخرى بديلة عن الدولة والقطاعات الاقتصادية القانونية. وحين نفّذت الدول العربية برامج التحرير الاقتصادي، قوّضت أنظمة الرعاية الاجتماعية القائمة وألغت ضمانات التوظيف في القطاع العام من دون تقديم بدائل.


كما لم تعزّز الحكومات العربية الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية، ولم تولّد اقتصاداتها العدد الكافي من الوظائف المطلوبة أو النوعية الضرورية. وفي الواقع إن أعلى مستويات البطالة تُسجّل اليوم في صفوف الأشخاص الحائزين على شهادات التعليم العالي.


ونتيجةً لذلك، نمت اقتصادات الظل الموازية أضعافاً مضاعفة. فعلى سبيل المثال، يُعدّ 33 في المئة من النشاط الاقتصادي في المغرب، و40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في مصر غير قانونيين، ما يحرم الكثيرين من الحصول على أي شكل من أشكال الضمان الاجتماعي.


وهذا يُعتبر أمراً كارثيّاً لمنطقة تتراوح فيها سنّ واحد من كلّ خمسة أشخاص بين الخامسة عشرة والرابعة والعشرين، وتصل نسبة الشباب العرب العاطلين عن العمل إلى تسعة وعشرين في المئة، عديدون منهم حائزون على شهادات جامعية.


وتشير التقديرات الأخيرة إلى أن ثمة حاجة إلى 105 ملايين وظيفة بحلول العام 2020 لاستيعاب الوافدين الجدد إلى سوق العمل.


وقد أرغم هذا الواقع المرير المواطنين العرب على اللجوء إلى مؤسسات أخرى – جزء كبير منها ذو طابع إسلامي – لتأمين لقمة عيشهم وإضفاء معنى أكبر على حياتهم. وكانت الحكومات العربية قد اعتبرت أن معظم الجماعات الإسلامية المتشددة ذات أجندة اجتماعية لا سياسية، وبالتالي غير مهدِّدة لأنظمة حكمها، فشجّعتها على القيام بمبادرات محلية وتوفير المساعدات الاجتماعية. وتنشط بعض هذه الجماعات اليوم لتجنيد شباب عرب لصالح الدولة الإسلامية.


ثالثاً: نجم عن سوء الحوكمة والمساءلة القانونية شعورٌ راسخ بالظلم. وغذّى هذا الشعور القمع والعنف المنهجي الذي تعرّض إليه المواطنون العرب على أيدي حكوماتهم على مدى عقود باعتبارهم خطراً على الأمن الوطني.


وأفاد استطلاع للرأي أُجري مؤخّراً أن نحو 55 في المئة من المواطنين العرب لا يثقون بحكوماتهم الوطنية أو بنخبهم السياسية، وأن أكثر من 91 في المئة من المواطنين العرب يعتبرون أن الفساد الإداري والمالي مستشرٍ، وأن 21 في المئة فقط يشعرون أن القانون يعامل المواطنين على قدم مساواة.


رابعاً: زادت مواجهة الانتفاضات العربية الأمورَ سوءاً. فالقمع القاسي للحراك الشعبي في بعض الدول العربية، الذي اصطبغ أحياناً بصبغة إيديولوجية أو طائفية، فاقم الشقاق المجتمعي وأجّج الاستقطاب الاجتماعي والتوترات الطائفية.


ومن وسائل العنف الذي مارسته بعض الدول ضد المدنيين، من استخدام البراميل المتفجّرة والأسلحة الكيميائية في سورية، والقتل الاعتباطي، والإخفاء القسري، والدعاوى القضائية المغرضة ضد أحزاب المعارضة في مختلف البلدان العربية. وهذه الإجراءات أحدثت تصدّعات في المجتمعات العربية، وولّدت شعوراً أكبر بالتهميش لدى شباب يشعرون بالقوة والقدرة على التأثير بفضل انتفاضاتهم التي أطاحت زعماء سلطويين، ويبحثون عن مغزى أكبر لحياتهم ويسعون إلى توكيد أكثر لهويتهم.


وفي الواقع أن العديد من الحكومات العربية لطالما استخدمت الطائفية أداةً لتوطيد نفوذها السياسي، من خلال إقصاء المجموعات الإثنية والدينية بشكل متكرّر عن العمليات السياسية. والآن يستغلّ اﻻمبريالييون والرجعيون في كلٌّ من السعودية والخليج وتركيا واﻻردن الفزاعة المذهبية في تنافسهم السياسي الإقليمي مع ايران.


ويتجلّى ذلك في الصراعات التي تشهدها سورية والعراق واليمن. فاظهرت اﻻمبريالية والرجعية السلفية ان تدخّل إيران المتزايد في البلدان العربية يُصنَّف على أنه أحدث انعكاس لصراع عمره 1400 عام بين السنّة والشيعة. فيتحول الصراع السياسي إلى رسالة للملايين من السنّة في المنطقة مفادها أن "الشيعة قادمون للقضاء عليكم".


وفي هذا السياق، يتخذ لجوء الشباب السنّة الساخطين من تردّي الأوضاع، إلى المجموعات المتشدّدة التي تظهر قوتها على الأرض، طابع الدفاع عن طائفتهم. وتتلاعب الدولة الإسلامية بحذاقة بالمشاعر الطائفية، وتستغلّ شعور الضحية المتنامي لدى هؤلاء الشباب.


وأخيراً، ساهم انعدام الثقة في الغرب في تأجيج الأوضاع سلباً. ويسلّط تنظيم "الدولة الإسلامية" في شرائعه الضوء على المعايير المزدوجة الواضحة التي يعتمدها المجتمع الدولي والقوى الغربية. فالاحتلال المتواصل للأراضي الفلسطينية، والحصانة الجليّة التي تتمتّع بها إسرائيل على الرغم من اعتداءاتها المتكرّرة ضد العرب، هما جرح لا يندمل لدى الكثيرين، إذ أن 77 في المئة من العرب يشعرون أن قضية فلسطين عربية، لا فلسطينية وحسب.


وفي حين تدخّل الغرب وجيوشه في العراق وليبيا واليمن، إلا أنه فشل في دعم الاصﻻح المدني في سورية، وبناء الدولة في ليبيا، وتدعيم الديمقراطية في مصر، ما يعزّز تهمة النفاق والرياء الغربيّين. وفي هذا السياق، تبدو الخلافة الإسلامية للكثير من الشباب، مع ما تتمتّع به من قوة واضحة على الأرض، بديلاً منطقياً عن فشل العرب والمسلمين في تحصيل حقوقهم.


سيتطلّب الحدّ من جاذبية "الدولة الإسلامية" وغيرها من المجموعات والتنظيمات المشابهة، والقضاء على أيديولوجياتها الخطيرة، اتّخاذ إجراءات طويلة الأمد لمعالجة مختلف جذورها وأسبابها. كما سيتطلّب مبادرات أوسع من استنكار العلماء المسلمين والقادة الدينيين لممارسات "داعش"، رغم أهميته، وأكثر بكثير من الحملة العسكرية التي تُشَنّ حالياً. وللحكومات العربية دور أساسي في هذا المجال.


إن تحقيق النصر على هذا الانجذاب القاتل نحو تنظيم "الدولة الإسلامية"، يكمن في ميادين قتالٍ عديدة، الأولوية فيها لتغيير طريقة فهم الشباب للعالم، وتقديم بدائل حقيقية للتغيير والتقدّم.