الشعر ليس نظماً ولا هو مجرد كلام مقفى وموزون، وليس قصة مدائحية على باب الحاكم او شعاراً مناسباتياً سرعان ما ينطفئ لهيبه ليستحيل الى رماد. انه في الاساس رغبة تمرد على السائد المألوف وأداة تحفيز نحو الاجمل والانقى، وتأهيل للمتلقي لمقاومة القبح من حوله والطموح اللامتناهي للخير والحق والجمال في تعريف لوظيفة الشعر قاله اليونانيون منذ اقدم الازمان. بهذا المنظور نرى الشاعر موفق محمد المتمرد والحالم والمسخّر للكلمة كأداة للتغيير، ومافائدة الشعر ان لم يتمرد ويغير ويحلم بمواعيد المطر ومواسم البيادر العالية؟ هو شاعر يصادق ضميره الحي ومشاعره واحاسيسه ولايجامل خارجها اياً كان, ويكتب للالم والجراح الغائرة والمعاناة المستديمة للمواطن العراقي لا تشفياً ولا انتقاماً من جهة، او تقرباً من جهة اخرى, بل يكتب وبالاحرى ينزف على الورق لوقف انين الجراح واعادة الدموع الى المآقي املاً في رسم بسمة وفتح كوّة امل واشعال شمعة فرح لنا جميعاً. فهو حقاً شاعر المدينة التي فقدت حدائقها المعلقة كما يقول الكاتب رحمن خضير عباس, وصاحب الخيال الشخصي العميق, مثلما يكتب شاكر مجيد سيفو, والناطق الرسمي بأسم الوجع العراقي. دعونا نسمعه في قصيدة "فتاوى للايجار": ان العراق عراقنا والله يخزي النابحين عليه من خلف الحدود ونحن نصلي في الجحيم ويشد بعضنا بعضاً فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا اما من رجل في هذه الامة التي تطلب القتل من المهد الى اللحد وتفتي مخالفة انبياءها اما من صالح في ثمود الشاعر هنا لايهوَم في الهواء ولا يعيش في العالم الافتراضي ولايتحدث عن شعب في اقصى العالم, انه يكتب عن حالة نواجهها يومياً في الشوارع والازقة والمساجد والمؤسسات الرسمية وفي كل مفارق الطرق والزوايا, حيث الدين عند البعض شعار وطقوس لبس وقوالب جاهزة واناشيد وسلعة للبيع ووسيلة تكسب، والانكى من ذلك ان الفضائيات لاترحمنا وكل دقيقة ترجمنا بسياط الفتاوى الجاهزة المرعبة المحرضة على تدمير اخر ما تبقى فينا من قيم الجمال, فرجل الدين والسياسي الامي الخاضع له شريكان في جريمة تبرير القتل والذبح باسم الدين, وكل صاحب فتوى وهم بالآلاف يجد في نفسه قائد الفرقة الناجية والوحيدة وصاحب الحقيقة المطلقة فيصادر حق النطق باسم الله . موفق محمد لايعترف بتراكم الزمن فمتى ما التقيته ترى فيه الطفل العابث والفتى العاشق للحلة التي تحاصره كلياً فيقول: انا احب الحلة فقد علمني نهرها الكتابة والقراءة وأعارني كتباً ممنوعة . هذه الكتب الممنوعة هي التي اهّلَته شاعراً لقاع المدينة ولشوارعها المكدسة بالوجع وحدائقها المعلقة التي اندرست ولم يبق منها سوى بضعة اسطر في بطون كتب التاريخ والاثار وفي بكائيات الشعراء . وهذه الكتب الممنوعة مازالت تعيش معه ولكن بشكل اخر فهو ينسج من مادتها الخام قصائده في زمن هذه الحرية المأزومة حيث سقط الصنم ليقوم من حواليه اصنام بلباس اخر . هو شاعر محاصر بالألم دوماً فكلما تفجرت مفخخة او حزام ناسف وكلما صرخ سياسيون بتصريحات عبثية او قام خطيب لترداد مقولات الماضي, يكون موفق محمد على الضفة الاخرى من النهر ومعه جيش المحرومين من الاطفال والنساء الخارجين تواً من ظلام الليل حيث لا كهرباء وحرائق النهار حيث دخان ورماد وجثث الضحايا, فتلد قصيدة لا تحكي الالم كحكاية نتسلى بها وانما تغرز فينا الابر والمسامير لعلنا نصحو اخيراً, ان قصائده مؤمنة ان الملح اذ يوجع الجرح فهو كفيل بالتعقيم. وهذا ما الغى الخوف من سجل حياته فهو القائل : لاتخف فالموت خط على جبينك واستدر للخلف وازحف في الظلام موفق محمد صوت لايستسلم ولا يخنع ولا يركع لاي منا ولكنه يسجد للوطن, وهذه فضيلة, فخطيئة الشاعر والكاتب ان ينطق باسم السلطة ايا كانت السلطة, ومن يراهن على غير ذلك يخسر لان الشاعر الحقيقي مكانه على الضفة المقابلة للحاكم لكي يرى قبحه ونتوءات وجهه دون رتوش فهو الرقيب الشريف والحريص على فتح الجراحات لمداواتها عوضاً عن التعمية عليها فتتلوث وتفضي للتقيح والموت وهو في هذا الموقف لايلعب لعبة بهلوانية عبثية بهدف الشهرة وانما لان الواقع اوضح له كما قال: كنا في الطابق الثاني من جهنم والآن اصبحنا في مرحاض جهنم فاذا كان الحال هكذا.. فبأي تبرير نطلب من الشاعر ان يسكت مثل النعامة التي تدفن رأسها في التراب وهي تتصور ان الناس لايرون عريها.
|