دعاة التقاسم ... ؟!

1
في الايام الاولى لسقوط البعث الفاشي، ومع حالة الذهول والدهشة، التي اصابت الجميع، وقبل ان يدخل الساسة ارض العراق، وبردود فعل شعبية خرج الجميع لحماية ممتلكات البلد من بعض السراق والمخربين، وهم يصرخون لاتسرقوا شيء هذه املاك الشعب، هي امولنا، هذا بلدنا، عراقنا الذي قدم مئات الالف من الضحايا والشهداء منذ تاسيس الدولة العراقية ولحد الان في سبيل ان يرى ضوء الحرية والكرامة. يومه التف الجميع حول تاريخهم المشترك، ووجودهم، التفوا حول اسم العراق، ورموزه وانهاره وجباله ووديانه واهواره، التفوا حول نضال مشترك في مقارعة الظلم والاستبداد.
الان ان الحدث كان اكبر من كل شيء والمطامع اكبر، وما خطط ودبر لم يكن بالحسان، ومن جاء لم يكن في مستوى التحدي والمسؤولية الوطنية الحقيقية، فتعالت الاصوات بين حق تاريخي وبين مظلومية، وامتدد الارهاب حتى ضرب البلاد عرضا وطولا. واشتدا الخلاف، وعلا صوت التهديد، والابرياء من الفقراء يقتلون ويذبحون ويهجرون يوميا، ورؤوس الفتنة والخراب، محمية في مناطق ملونة. وجاء الحل الامريكي على لسان نائب الرئيس بايدن ومشروعه الفض قسموا البلد الى ثلاث اقاليم وينتهي كل شيء. وكان العراق قطعة حلوى مرمية على قارعة الطريق.
في حينها تعالت مئات الاصوات الشعبية والرسمية في رفض فكرة المشروع، واصر الجميع على الوحدة والتكاتف، وبناء العراق من جديد والنهوض به من ركام الحروب والدمار والدكتاتورية والطائفية. لكن سرعان ما نشبت الخلافات القديمة من جديد، مع ظهور خلافات جديدة، وتدخلت اكثر خطورة، خاصة مع انطلاق مشروع الربيع العربي، واشتداد الصراع الدولي حول مصادر الطاقة وكيفية توفيرها، بالاضافة الى دعم وتبني الاصوالية الدينية في دول الربيع العربي من قبل القوى الكبرى في العالم، ليكون نتاج الاحداث الحالية ظهور محاور جديدة في المنطقة، لكل منها اهداف وغايات ومشاريع خاصة.
2
بعد رفض فكرة التقسيم الخارجية، جاء الدور هذه المرة الى دعاة التقسيم من الداخل "التقاسم" ومن شتى الشرائح والفئات والطبقات والطوائف، ينصحون بالتقسيم "التقاسم"، من اجل ان ينعم السلام والامان بالبلاد، ومن اجل انهاء كل المشاكل والخلافات السياسية والدينية. والتي هي بالاساس خلافات شخصية وفئوية وحزبية، مستمدة من مصالح شخصية، لا من هموم ومصالح الوطن والمواطن. يدعون للتقسيم لعواصة الازمة الحالية، وتجنبا لوقوع حرب اهلية تحرق الاخضر واليابس، حيث يكون التقسيم بعدها واقع حال، مثلما يعلنون ذلك مرار وتكرار، في كل الاماكن والمنابر العامة والخاصة.
مشروع بايدن للتقسيم معروف النوايا والخفايا بعض الشيء، ومنها ان العراق عائم على بحور من النفط والثروات الطبيعية الاخرى، ولان هذه الثروات حين تكون تحت سلطة واحدة لايمكن التحكم به حسبما يراد، لكن حين تتوزع بين عدت سلطات وحكومات نتيجة التقسيم الى اقاليم او محافظات، فمن السهل الضغط على اي حكومة او سلطة، واستغلال تلك الثروات كيفما يراد، او استثمارها بشكل حصري من قبل شركات مرتبطة بتلك الجهة الضاغطة. هذا بالاضافة الى مشروع التقسيم الجديد للمنطقة، والذي سيكون على اسس دينية ومذهبية وطائفية، قد يصل بالنهاية الى تقسيم على اساس القبيلة او العائلة، او على اساس التقليد والمرجعية الدينية، حينها ستتمكن الدول الكبرى المتصارعة من فعل ماتشاء من حروب وازمات، وتصنع اسلحة جديدة تجرب في تلك الحروب.
اما مشروع دعاة التقسيم " والتقاسم" في الداخل ومن يحذر من تطور الامور والدخول في حرب اهلية وخاصة الساسة منهم. يدل على فشلهم بادارة البلد والخروج به الى بر الامان وقيادته الى النهوض والتقدم، والوقوف بمصاف الدول التي تتمتع بمثل ثرواتنا الطبيعية والبشرية. وقسما اخر منهم مرتبط باجندت خارجية او داخلية خاصة ويدفع لهم عن كل خطوة تسير بتجاه التقسيم. وقسما ثالث، يتفاعل عنده الحس الطائفي والمذهبي، اذ لايمكن له تقبل الاخر باي شكل من الاشكال، واخر يبحث عن سطوة وسلطة ومال وثروة على غرار امارات الخليج وغيرها من امارات ودول تحكم بطريقة السلسة العائلية. هذا مع وجود نيات على افشال المشروع العراقي الجديد، ونسف التجربة والتحول السياسي، وهو ما تعمل عليها الكثير من التنظيمات المرتبطة بالبعث الفاشي، والتي استطاعت الدخول والتسلق الى كافة الجهات والتيارات والحركات والاحزاب السياسية المتواجدة الان في المشهد السياسي العراقي.
3
مع كل الامنيات والدعوات ببقاء العراق موحدا متحدا، يزهو بتاريخه وناسه وارضه وامجاده ورموزه، السياسية والفكرية والثقافية والفنية والادبية والاكاديمية والعلمية والرياضية وكل المجالات الاخرى. لو افترضنا انه تم التقسيم. وبدواء بتوزيع وتقسيم الاشياء. وتم نقل السكان الشيعة في الموصل وصلاح الدين والرمادي الى الجنوب، ونقل السنة في الجنوب الى تلك المحافظات، ما هو مصير ديالى وسكناها، وهي تمثل عراقا مصغر، ومع اي اقليم ستكون. ولنترك قضية كركوك الان. التقسيم حتما سيكون اقليم كردي، واخر شيعي، وثالث سني. من ثم يتم التقسيم وفق استحقاقات اخرى داخل تلك الاقاليم. اين سيذهب التركمان والصابئة والمسيح واليزيديون والشبك والمكونات الاخرى. وكيف ستحل قضية بغداد ولمن ستكون. كيف سيذهب الشيعة لزيارة الامامين العسكريين وغيرهما من مراقد في الاقليم السني. وكيف سيذهب السنة لزيارة مراقدهم في الاقليم الشيعي. كيف سيتم توزيع مياه دجلة والفرات، والانهار التي تصب بهما. والكثير الكثير من الامور الاخرى. ومن ضمنها واهمها العلاقات الاجتماعية والمصاهرة والزواج.
الشيء الاخر من سيحمل اسم العراق، ويبقي الوريث لتاريخه وحضارته، ومن له الحق في الارث الفني والادبي والرياضي وما تحقق في هذه المجالات من انجازات وبطولات اي من الاقاليم. كيف سيتم تقاسم الجواهري وشعره وهو الذي تغنى بدجلة وكردستان والاهوار، والرصافي والزهاوي. ولمن ستكون شناشيل السياب واشعار نازك الملائكة، ومع من سيكون محمود احمد السيد وذنون ايوب، وغائب طعمة فرمان وفواد التكرلي ومحمود عبد الوهاب وبلند الحيدري ورشدي العامل، وعلي جواد الطاهر، والمخزومي، وكامل الدباغ، ومؤيد البدري، ولمعية عباس عمارة، وعبد الوهاب البياتي، وجواد سليم، وفائق حسن، وشاكر حسن ال سعيد، ويوسف العاني، وحقي الشبلي، وعموبابا، وقاسم زواية، وعبد كاظم، وداخل حسن وحضيري ابو عزيز، وعزيز علي ومظفر النواب، وسعدي الحديثي، ومحمد غني حكمت، طه باقر، مصطفى جواد، عبد الرزاق الحسني، محمد بهجت الاثري، نزيهة الدليمي، هاشم الوتري، احمد سوسه، نوري الرواي، هاشم الخطاط، عبد الجبار وهبي، مير بصري، روفائيل بطي، منير بشير، عبد الهادي مبارك، وناظم رمزي والمئات بل الالف من الرموز والشخصيات بمختلف الاختصاصات والمجالات، والتي جعلت من العراق بلدا يشار له بكل زمان ومكان.
الا ان الذي يبدو من دعوة التقسيم، عن قصد او غير قصد، هي محاولة لطمث تاريخ القوى الوطنية العراقية، وتشتيت تاريخه الحافل بالنضال والتضحيات وقواها العاملة الان من اجل عراق مدني مزدهر ينعم بالديمقراطية والحرية والرفاه، والعدالة الاجتماعية بين كل مكوناته وطبقاته، وهذا ما لا يلائم توجهات وافكار العديد من القوى والتيارات السياسية الحالية، خاصة تلك التي وقفت بوجه ثورة 14 تموز 1958، ومن لم تحرك ساكنا في 8 شباط 1963، حتى انها لم تستنكر او تدين هذه الجريمة العفنة، فيما بعد، وخاصو في سنين التغيير الاخيرة.