اساسيات الفن الشعري بين الحداثة والمعاصرة.... فالح الحجيه

من المعلوم ان الشعر العربي يمثل اساسية الفن الاول للغة العربية في مجتمع الامة العر بية ككل .
فالانسان العربي الاول جبل على قول الشعر اوسماعه او الاهتمام به فهو يمثل أكثر الفنون القولية تاثيرا لدى الانسان العربي و التاريخ الأدبي اذا ما قارناه بالنثر او بالخطابة وكدليل على أهمية الشعر عند العرب . قيل ( الشعر ديوان العرب ) وهو كذلك بحق نتيجة لتعايش الانسان العربي و ما أبدعه الشاعر العربي من شعر تمثله كل معطيات الحياة اليومية لديهم منذ عصر الجاهلية الاولى ، فهو حافظ لتاريخ العرب وأيامها وعلومها المختلفة، ويعتبر مصدرا مهما بل المصدر الاول والرئيس الذي يمكن الاعتماد عليه في التعرُّف على أحوال العرب وبيئاتهم وثقافتهم وتاريخهم مع طبيعته بالاحتفاظ بالرؤية الفنية اذ يتميز الشعر العربي عبر كل عصوره المتلاحقة بعلاقة الإبداع الشعري بالموسيقى من خلال الإيقاع الشعري والذي يمثله الوزن والقافية انذاك .

قصيدة الشعر العربية تتكون من ابيات,و كل بيت منها يتألف من مقطعين الأول ويسمى الصدر، والثاني يسمى العجز، ثم سمي الشعر بمجموعه او كليته ( الشعر العمودي) الذي هو الأساس المعتمد للتفريق بين الشعر والنثر اذ يخضع هذا الشعر في كتابته لضوابط معينة . و كان الشاعر العربي يحضى بها بعفوية وضمن سياق الاذن الموسيقية المألوفة لدى الشعراء او بحركات متناغمة ماخوذة من واقعهم المعاش كسير الابل في الصحراء او حركة الراكب فوق بعيره او من خلال صوت هجير الرمال في الصحراء وقد بحث فيها الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري - علم اعلام اللغة و الادب - في العصر العباسي واوجدها كقواعد اساسية في الشعر واطلق عليها علم العروض .
(( راجع مقالتي ( العروض – ميزان الشعر العربي ) المنشورة في موقعي \ اسلام سيفلايزيشن ( الحضارة الاسلامية ))


ويعرف علم العروض بأنه علم معرفة أوزان الشعر العربي أو هو علم أوزان الشعر الموافق للشعر العربي وبما انه موافق لهذه الحالة ولقرب الشعر من النفوس. فقد قام بعض علماء اللغة او غيرهم بنظم العلوم المختلفة المستجدة او المستحدثة او التي يراد الاحتفاظ بها لنفاستها في قوالب شعرية على شكل قصائد مستقلة بكل موضوع وقد اتخذ هؤلاء العلماء عمود الشعر اساسا في تنظيم قواعدهم وما ارادوا ايصاله الى القارئ العربي او السامع العربي وتقريبه اليهم بافضل واحب واسهل طريقة شائعة الا وهي الشعر ( كألفية بن مالك ) في قواعد اللغة العربية مثلا او بعض القواعد والعلوم او غيرها وذلك لما ألفته الأذن العربية و استساغتها للنظم وقرب حفظها واستيعابها بهذه الطريقة . و الإيقاع المنتظم، ما يجعل تلك المنظومات أسهل للحفظ والاسترجاع في الذاكرة.

وقد خرجت هذه المنظومات من حالة الشعر إلى حالة النظم وذلك لانها بصراحة افتقدت اهميتها كشعر او فاعليتها الجمالية فاخرجتها من دا ئرة الشعر الذي اهم ما يميزه العاطفة الشعرية والتواصل المشدود الى النفس الانسانية وخلجاتها واتحادها بروحية الشاعر وما اوحاه اليها من عواطف نفسية قد اعتملت في نفسيته فاستودعها قصيدته او شعره فياتي الشعر نبضات قلب متدفق حيوية ويعبر عما في نفس الشاعر او ما يسمى بالشعر الوجداني . ولهذا فقد تميز الشعر عبر أدواته ا لمختلفة التي لم يكن هذا العمود او المنظومة إلا مظهراً من مظاهر الشكل الفني غير الجوهرية، قد فقدت روح الشعر ومثال ذلك المعلقات السبع او العشر وهي افضل قصائد الشعر الجاهلي وسميت بالعلقات بسبب تعليقها في داخل الكعبة ( بيت الله الحرام ) وهو افضل مكان عند العرب لجيادتها وسمو سبكها وبلاغتها وقوتها الشعرية والتعبيرية وقيل انها كتبت بماء الذهب لنفاستها الفنية وقد نظمت بأوزان الشعر العربي دون أن يعتريها أي فقدان لروح الشعر او جمالياته الإبداعية و بأبعاده الفنية والعاطفية او النفسية و تعد أشهر ما كتبه العرب في الشعر من حيث السبك واللغة ، وقيل أيضا إن هذه المعلقات اشبه بالعقود النفيسة التي تكاد ان تعلق بالأذهان وتدخل القلوب والافئدة وتسيل الى اعماق النفس لترويها ولا تزال لحد الان تعمل في تاثيرها الشديد في القارئ العربي عند قراءته لها او مراجعتها .

وقد لا اخرج عن الموضوع ان قلت إن مفهوم الشعر عند أرسطو الشاعر اليوناني القديم ينحصر في المحاكاة، والشعر الحق عند ه يتجلى في المأساة والملحمة والملهاة فهو يقرر بحزم أن الأعاريض الشعرية لا تعتبر الحقيقة المميزة للشاعر بخلاف الشعر العربي الذي تمثله ازدواجية العروض والجمالية فالمحاكاة لا الوزن هي التي تفرق بين الشعر والنثر عنده اذ يثبت جوهرية المحاكاة الافلاطونية ومعناها بدرجات متفاوتة تبعا لدراسته الكثير من الاعمال الفنية واشكالياتها المختلفة فكل أنواع الشعر التي درسها إضافة إلى الموسيقى مثل الرقص والفنون التشكيلية وأشكال المحاكاة. فالمحاكاة عند ارسطو بعيدة عن الحقيقة بدرجة متساوية بحيث يجمل بنا ان نقول بأن المواقف والأفعال والشخصيات والإنفعالات النفسية ينبغي أن تكون متشابهة ومنسجمة مع الحياة وليست مثل صورة تصويرية او فوتوغرافية منها- فمهمة الشاعر في هذا المجال هدفه ألا يحاكي احداثاً تاريخية معينة أو شخصيات بنفسها بل عليه محاكاة ذات الحياة في عالميتها الشاملة وسموها المتعالي من حيث الشكل والجوهر.

لذا فالشعر وجد باعتباره محاكاة للإنطباعات الذهنية ومن ثم يتبين انه ليس نسخا ً مباشراً للحياة. وإنما هو تمثيلٌ لها ينبع منها ويصب فيها . ويتبين بأن الشاعر الفذ يحاكي الأشياء كما هي، أو كما كانت، أو كما ينبغي أن تكون اي على حالتها او وجوديتها في الطبيعة وربما كما اعتقد الناس بأنها كانت كذلك، أي أن هذا الشاعر الذي ربما كان متهما بالبعد عن الحقيقة المعروفة عند الناس، يمكن أن يدافع عن موقفه بأن يعرض الأشياء الحاضرة والماضية وبمثالية أو ما يعتقده الناس فيها.

. والشعر قد يكون سماوياً وهذ ا لا يعني أنه يجب أن يكون كذلك او انها لازمة ضرورية ومن هنا يتضح لنا ان مزامير نبي الله داود عليه السلام هي إغانٍ قد نظمت في أوزان معينة الا انها ليست شعرا حيث ان الوزن وحده لا يقيم شعراً بمفرده اذ يفتقد الايقاع او النغمة الموسيقية والعاطفة .لذا يتوجب الحصول على الإبداع الحيوي الذي يمثل الخاصية المميزة للشاعر وتقاس امكاناته الشعرية بقدرها او بقدر ما يأتيه منها فهو يبدع أشياء جديدة معتمداً على فطنته الذاتية او فطرته .
.
فالشعر معرفة انسانية تحمل معطيات الرؤية و الاحساس النابع من القلب وهذا الاحساس هو المصدر الوحيد لمعرفة الاشياء في العالم الذاتي أي ان الشعر الذي ينبثق من الروح اللاعقلية و اللاتصورية مضاد لكل تفسير منطقي .اي ان ما عناه الشاعر ربما يبقى مبهما عند الاخرين بما يحقق المقولة المعروفة ( المعنى في قلب الشاعر) ومن هنا يتضح ان الشعر في الاتجاه الرمزي ربما يكون تعبيراً عن العلاقات التي تخلفها اللغة لو تركت لذاتها بين الحد العيني والتجرد المادي والمثالي وبين المجالات المختلفة للحواس. او بمعنى اخر أن الشعر هو الإيحاء بصور مثالية تتصاعد إلى الإعلى محلقة باجنحة شعرية منبثقة من روحية الشاعر وعاطفته المنبعثة من اعماقه وممتزجة بخوالجه المتدفقة منها المشحونة بها و التي يخترعها في شعره والتي قد تتبخر في بعض الاحيان فينكص الشاعر عن قوله في تلك اللحظة او الفترة الزمنية او نقول أن الشعر هو الخلق الجميل الموقع ، و يقصد فيه التبصر والسمو و التأمل في تجربة ذاتية لنقل الصورة الجميلة المعبرة عما يجيش في نزعات الشاعر ممتزجة بأقوى عناصر الجمال الشعري والشعوري الذي يتمثل في الموسيقى الكلامية المنبعثة من امكانية الشاعر في الايتاء بها من خلال تمازج او تزاوج الحروف اللغوية مع بعضها بحيث تعطي نمطا او نسقا موسيقيا معينا تبعا لأمكانية الشاعر ومقدرته على الخلق والابداع وامكاناته في اللغة لأنها طريق السمو بالروح نحو مسارات عالية ذات نغمات تبثق من نفسية هذا الشاعر وعواطفه وامكانيته التعبيرية والتي هي السبيل للإيحاء وللتعبير عما يعجز التعبير عنه الاخرون . راجع مقالتيّ ( النغم والايقاع ) و( عبد القادر الكيلا ني نموذج من الشعر الصوفي ) المنشورتا ن في كتابي ( في الادب والفن ص 60وص 82 )

من هذا نفهم ان الشاعر يتميز بخاصية فنية ابداعية فطرية في اغلب الاحيان تشحذ بالاكتساب والتعامل مع النصوص والمطالعة او بالمران ويتحقق من ذلك انه أي الشاعر يمثل قمة الاحساس النفسي بحيث تنثال شاعريته في اغلب الاحيان انثيالا فلا يتأتى ما تورد عليه لغيره من الذين يبقون ناكصين مهطعي رؤوسهم ازاء ذلك بينما ينظر أصحاب الشعر الخالص او الشعراء الفحول ويسلمون الى أن جوهر الشعر هو حقيقة مستترة عميقة وايحائية لا سبيل إلى التعبير عنها بمدلول الكلمات بل بعناصر الشعر الخالصة، وهذه العناصر الخالصة غير مقصورة على جرس الكلمات ورنين القافية وايقاع التعبير وموسيقى الوزن - فهذه كلها قد لا تصل إلى المنطقة العميقة التي يتحدر منها الإلهام - بل تتعداها الى ارهاصات التفكير وارتعاش القلب ونوازع النفس الشاعرة وانتشاء الروح بما يحقق الامل المرجو منها .

بدأت بوادر النهضة الفنية في الشعر العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، حيث بدات كشذرات خافتة لدى بعض الشعراء ا و ضئيلة الشأن وكانها أصوات هامشية كما عند الشاعر ناصيف اليازجي وولده ابراهيم وغيرهما ثم أخذ عودها يقوى ويشتد على ايد ي الشاعر محمود سامي البارودي وغيره من شعراء ذلك الزمن فجاءت مندفعة نحو الرقي والاكتمال حتى اذا اكتملت خلال القرن العشرين اضحت متبلورة في اتجاهات شعرية مختلفة في نهضة ادبية شعرية قد حددت مذاهب الشعر العربي الحديث و تفوقاته ورصدت اتجاهاته -راجع كتابي ( شعراء النهضة العربية) - مستفيدة من التراث العالمي وخاصة الفكر الاوربي آخذةً منه ما يوائم القيم والتقاليد العربية الأصيلة سائرة في سمتها الاصيل نحو الافضل ودائرة في محورها و بالوقت نفسه رافضة مفهوم القصيدة الشعرية كعملية تأليف أو تنظيم كنظم القواعد او نظريات علمية بل فاتحة آفاقاً شعرية جديدة غير مسبوقة في تاريخ الشعر العربي مثل الشعر الحر الذي رسم الشعر وفق اوزان معينة هي نصف بحور اوزان عمود الشعر – وقصيدة النثر او ما يسمى بالسطر الشعري بالشعر الحديث او المعاصر التي أثبتت في نهايات القرن العشرين وبدايات هذا القرن حضورا متميزا في الساحة الشعرية العربية على الرغم من شدة المعارضة – من اصحاب عمود الشعر ا و الذين شكّلوا دافعاً قويّاً لاستهداف التغيير والحط من قيمته ومكانته - غير عابهين بهم او غير مستمعين لهم - للتطور الزمني الرافض لهذه الحالة والسائر في مسيرة متقدمة نحو المستقبل بنزعاته وارهاصاته .

ان الشعر الحديث صمد أمام تيارات الرفض هذه وبدأت هذه المعارضة الرافضة تضعف رويداً رويداً أمام رغبة الأغلبية في حتمية التغيير والتحديث وذلك لان الشعر عالمٌ يختلف كليا عن عالمنا المرئي فهو عالم ملئ بالسحر والجمال والطقوس والرمزية ( المعاصرة ) في بعض الاحيان بعيداً ومتجرداً تماماً من المادة . راجع كتابي - ( الموجز في الشعر العربي )– الرمزية في الشعر المعاصر ج 4 صفحة\632 وما بعدها )

اما الشعر الجيد فهو الكنز الثمين والوجه الحقيقي للواقع الإنساني ولطالما حلم الإنسان به منذ أقدم العصور بان يكون شاعرا او يولد شاعرا لذا استطيع ان اقول ان الشعر حالة روحية او نفسية تكتنفها العاطفة و تتأرجح بين التأمل والالهام والحدس فالانسان الحديث ربما كانت له حالة مركبة من المشاعر الرومانسية والألم الواقعي والرموز السيريالية والقلق الوجودي فهو غير الانسان العربي القديم الذي كان هائما في الصحراء ينشد الكلآ والماء ويتغنى بما يجيش في نفسه من مشاعر واحاسيس في حدود امكانيته وظروف طبيعته فالإنسان العربي الحديث ربما تعتريه حالة او مجموعة حالات متناقضة بما تمليه عليه نفسيته والواقع المعاش في الوقت الحاضر وتناقضات المجتمع الانساني المختلفة المحيطة به

فالشاعر الحقيقي هو هذا الذي يرخي عنان قصائده فتخرج عفوية حصيلة ثقافة انسانية ومشاعر مركبة ومعبره عن طموحات نفسية الشاعر ومدى تأثيرها في الاخرين و ابداعات خلابة وطموحة فالقصيدة الحالية تمثل كائنا حيا او هي اشبه بالكائن الحي حيث يمثل شكل القصيدة او بنيتها جسده ومضمونها روحيته فهي تمثل الصدى الذي تنبلج منه اسرار روح الشاعر واراؤه ممتزجة بعواطفه واحاسيه

ومن المفيد ان ابين ان الشاعر الحديث المطبوع شاعر تتمثل فيه غزارة الثقافة في امتدادات عميقة وكأنه وارث الحضارات كلها ومطلع على ثقافات الامم المختلفة لذا اصبح متمكنا من استخدام مفردات اللغة لتصوير افكاره وارائه وعواطفه وخلجات نفسه دون تاثير من خارج او امر من احد و يرتكز على فلسفة عميقة غنية تحصنه من القول الضحل الفاني او الركيك الى القول العميق والرصين فهو اذن يمثل فيضا هادرا وتلقائيا للمشاعر النفسية القويَّةِ المنبثقة من اعماقه يَأْخذُ بها مِنْ العاطفة المتأملة المتجددة المنطلقة نحو الافضل متألقة متناغمة تنشد الحياة والانتشاء والحب للانسان المثالي ونحو الافضل في توليده للافكار والابداعات الشعرية الجميلة ومحاولة خلقها من جديد .

فالح نصيف الحجية
العراق- ديالى - بلدروز