العراق تايمز: كتبت جليلة مفتوح..
من تكون عيشة أو عائشة؟ جنية أم أميرة؟ وهل حرف لقبها من كونتيسة أو قديسة إلى قنديشة؟ هل هي حقا قنديشة بشعة تستدعي البصق والتعوذ كلما تم ذكرها، أم كونتيسة رائعة الجمال سليلة أمجاد.لحد اليوم لا تزال هويتها تتوه بين الحقيقة والخيال.
لالة عيشة، عيشة السودانية أو الكناوية أو عيشة قنديشة مولات المرجة (سيدة المستنقعات) كلها ألقاب لـ«عيشة قنديشة»
كانت معظم الأسر تجتمع ليلا في جو حميمي خاصة بالبوادي حيث لم تكن التكنولوجيا عرفت طريقا إلى البيوت، تتبادل القصص والأحاجي والألغاز على وهج الشموع والقناديل..وكان موضوع عيشة قنديشة يتخذ الحيز الأكبر من الإهتمام .. يحتل المخيال الشعبي بشكل ملفت .. لها أسماء مختلفة .. فهي بغلة القبور وهي تامغارت نمسدال وهي عروسة القبور ....
وصفتها الحكايات بكونها كانت امرأة ذات وجه فاتن .. تلبس الأبيض دائما .. قدماها يشبهان حوافر البغال ..تنطلق من المقابر باحثة عن ضحية تغريه فيستسلم لها.. ولما تنال ما تريد تلتهمه دون رحمة .
جداتنا وبتأثير دعاة الدين الوافد كن شبه مقتنعات بأنها امرأة توفى زوجها لكنها لم تقم بما يلزم حينما تترمل النساء من احترام أيام العِـدّة ( حقّ الله ) .. ولهذا السبب أصابتها اللعنة الإلهية : تتعذب بسلاسل تجرها وراءها ،تكره النور، تسكن في المقابر....ولعل الجدات بهذا الحكي يمررن انذارا أو وصلة اشهارية تحسيسية لكافة المترملات من أجل حثهن على التقيد بشروط العدة وعدم الفرح بالتحرر .
ورد ذكر عيشة قنديشة في كتاب '' الاعلام '' الجزء 9 اذ تحدث المؤلف القاضي السملالي عنها مشيرا الى انها كانت ولية صالحة عاشت في فترة سيدي محمد بن عبد الرحمان المتوفى سنة 1873 م والذي كان يزورها للتبرك بدعواتها ..عايشت مجموعة من الأولياء كسيدي الزوين المشهور ..كانت '' تغزل الشتب وتعمله حبالا تخاط به البرادع و تقتات من ذلك ''. كانت تقول زجلا '' تشير فيه الى الغلاء..وانحباس المطر..وذهاب الأخيار وظهور الأشرار .. توفيت رحمها الله و دفنت بمقبرة باب غمات .
مقابل هذه الروايات نجد بعض الدراسات المعاصرة التي تناولت سيرتها ( مثلا الفرنسي بول باسكون ـ الفلندي ويـست مارك ـ السوري مصطفى العتيري ...) وأنجزت بعض الأفلام مستوحاة من هذه الأسطورة (مثلا beowulf عام 2007 ).
لكن أكثر الدراسات أكدت أن الأمر يتعلق بأميرة مغربية مورية طردها المسيحيون من الأندلس إبان محاكم التفتيش أوائل القرن 16 حينما تم تهجيرحوالي 275.000 مسلم من الموريسكيين و كذا قتل الألاف) ولأخذ ثأرها تعاونت مع المجاهدين المغاربة أثناء مقاومتهم للبرتغاليين فكانت تستغل جمالها لإغراء بعض الجنود البرتغاليين فتتجه بهم الى كمين أعدَّته مسبقا بمؤازرة المقاومين . ولما أظهرت شجاعة باهرة في القتال والمناورة خاف المحتل من ازدياد شعبيتها وتوسُّع مناصريها .. فروّجوا بين الناس تلك الأسطورة المعروفة لكي ينفر منها الجميع ..فكان اعوان المستعمر في الأسواق يحذرون الناس منها و من تربصها بالبيوت و تتنكرها في هيأة قريب حتى تختطف أحد الذكور إلى وكرها الموحش.. فتضاعفت الإشاعة عنها واستمرت الى يومنا هذا .
عيشة قنديشة الجميلة لا يحلو لها الظهور سوى ليلا ولا تنام إلا في الغابات أو بجوار المجاري الراكدة. من هنا جاء لقب «عيشة مولات المرجة»، وعشاؤها المفضل لحوم بشرية ذكورية حتى أصبحت رمزا حقيقيا لكل أنواع الرعب والخوف.
جمال عيشة قنديشة فائق الوصف يفتن الرجال الذين ينصاعون لها فتقوم باستدراجهم إلى وكرها حيث تمارس عليهم شهوتها المحمومة، وحين تنتهي من حفلتها المجنونة تقوم بقتلهم وتتغذى على لحومهم وتشرب من دمائهم.
شيئا واحدا يمكن أن يقهر عيشة قنديشة .. إنها النيران المشتعلة. في إحدى القصص التي تدور حولها، يزعم أن عيشة قنديشة اعترضت مرة سبيل رجال كانوا يسكنون القرى فأوشكت على الإيقاع بهم بسبب فتنتها، إلا أنهم استطاعوا النجاة منها خلال قيامهم بحرق عمائمهم أمامها بعد أن لاحظوا شيئاً فيها يميزها عن بقية النساء، وهو أقدامها التي تشبه قوائم الجمل. وقد كان السبيل الوحيد للنجاة منها هو ضبط النفس ومفاجأتها بالنار لأنها تعتبر نقطة ضعفها. كما سمعت من جدتي أن غرس سكين في الأرض يخفيها وهو شئ لم أقرأ عنه في أي كتاب لكنه رائج في قبيلتي كلها. لكنها أصدق فالرجال دوما في البوادي يحملون سكاكين أو خناجر صغيرة لقطع أعشاب أو قنص أرانب في سهرات الخلاء ..أما إشعال نار فصعب أمام هول الموقف .
لا ينحصر تداول هذه الأسطورة في أوساط العامة، فقد أتى عالم الاجتماع الراحل بول باسكون على ذكرها في كتابه «أساطير ومعتقدات من المغرب»، حيث تتداول أوساط العامة أسطورة تحكي كيف أن أستاذا أوروبيا للفلسفة في إحدى الجامعات المغربية كان يحضر بحثا حول عيشة قنديشة، فوجد نفسه مضطرا إلى حرق كل ما كتبه حولها وإيقاف بحثه ثم مغادرة المغرب، بعدما تعرض لحوادث عدة غامضة ومتلاحقة.
وتؤكد الوقائع التاريخية أن عائشة سيدة حرة، حكمت شفشاون بشمال المغرب خلال القرن السادس عشر، وهي ابنة أمير شفشاون علي بن موسى بن راشد وشقيقة وزير وزوجة حاكم تطوان محمد المنظري، ثم زوجة السلطان أحمد الوطاسي فيما بعد.
غادرت عائشة رحاب الرفاهية بالقصر السلطاني إلى ساحة المعارك ولأنها تعاونت مع الجيش المغربي آنذاك لمحاربة البرتغاليين، فأظهرت مهارة وشجاعة في القتال واتخذت في ذلك مذهبا غريبا.إذ كانت تقوم بإغراء جنود الحاميات الصليبية وتجرهم إلى حتفهم إلى الوديان والمستنقعات حيث يتم ذبحهم بطريقة أرعبت المحتلين الأوربيين، حتى ظن البعض، وعلى رأسهم البرتغاليون، أنها ليست بشرا وإنما جنية، وأشاعوا ذلك وسط عامة الناس من الشعب المغربي، مستغلين سذاجتهم.
أنشأت عائشة أسطولا بحريا تجاريا كبيرا، وكانت سفنها تجوب عباب المنطقة المتوسطية في الجهاد البحري، وأمام قوة هذا الأسطول اضطر البرتغاليون صاغرين إلى عقد صلح معها من أجل إطلاق سراح أسراهم ورهائنهم، بل إن المحاربة الشجاعة الأمازيغية ساعدت أيضا الجزائر في عهد حاكمها بارباروس في جهاده البحري.
رواية تاريخية أخرى تقول إن للا عائشة كانت مسافرة حينما هاجم الجيش البرتغالي إحدى القرى بالقصر الصغير سنة 1558م فأبادوها عن بكرة أبيها، وكان من ضمن قتلوا في تلك المجزرة عائلة للا عائشة، التي كان وقع الفجيعة شديدا عليها، فقررت حينها الانتقام، مستغلة في ذلك جمالها الطبيعي الذي وهبه الله لها.
وتروي الحكاية أن عائشة قنديشة نالت ثأرها بمشاركتها في معركة واد المخازن عام 1578م، التي كان النصر فيها عظيما، لكن لا أحد استطاع أن يعثر عليها بين جثث الشهداء.
قليل من المغاربة يعرفون إذن أن الأميرة الجميلة «عائشة» شخصية حقيقية وليست شخصية أسطورية، والقليل أيضا، وحتى من عشاق التاريخ البعيد أو القريب، يدركون أن هذه السيدة نزلت إلى الميدان لتضع جسدها ودهاءها في ميدان القتال، ولذلك أيضا كان عليها أن تؤدي الثمن غاليا، حيث طرد الجيش البرتغالي أهلها، وهذا ما زاد في الاعتقاد بأن السيدة التي قتلت الكثير من أصلب الرجال في الجيش البرتغالي لا يمكن أن تكون بشرا، وإنما جن في صورة بشر، لكن «عيشة» ستعود للانتقام بطرقها الخاصة حينما أنشأت أسطولا بحريا تجاريا كبيرا، وكانت سفنها تجوب أغوار البحار مما خول لها أن تربط علاقات مع جيرانها الجزائريين والإسبان ومع البرتغال أيضا، الذين اضطرتهم للتعاقد معها لأنها كانت تمثل القوة البحرية في المنطقة المتوسطية، وذلك من أجل أن تطلق سراح أسراهم ورهائنهم.
إنها السيدة التي كانت تخفق لها القلوب داخل البلاد وخارجها من روعة حسنها، ، ، قبل أن يطردها البرتغال، وتلتحق بالوطن حينما كانت الأندلس أحد بقعه الغالية. كما ساعدت أيضا الجارة الشرقية الجزائر في عهد حاكمها «بارباروس» في جهاده البحري.
وفي الأندلس، ولكل هذا الجمال الفاتن استطاعت «عيشة» أن تخطف لقب «الكونتسية» الذي لا يعني الجنية وإنما الأميرة، وبدل أن يظل اسمها «عيشة الكونتيسة» تغير إلى «عيشة قنديشة»، فتوالت الحكايات والقصص حتى أصبحت الجميلة، التي حاربت الجيوش دفاعا عن بلدها، جنية بحوافر وحش خطير يجول بين مداشر القرى وكهوف الجبال.
.
السيدة التي آمنت بقضية وطنها في الاستقرار الآمن والاستقلال عن غدر المتربصين، فضحت بنفسها في الوقت الذي كان فيه الآلاف من المغاربة يلتحقون بالجيوش النظامية نصرة لنفس المبادئ والأهداف، ولذلك اكتسبت خبرة ميدانية في القتال والتخطيط، حتى أصبحت هدفا للغزاة، قبل أن تحولها الروايات المهزوزة إلى جنية في صورة بشر كما حولت ديهيا لبطولتها إلى ساحرة وكما كل امرأة حين تسمو حتى تسكن الوجدان الشعبي.
هناك بعض عائشات في أساطيرنا الجميلة مثل "عيشة الحمدوشية ولالا عيشة البحرية "لكن تبقى عيشة قنديشة هي مولات المرجة أي صاحبة المستنقع والساكنة الواد.
لم تقف الروايات عن الكونيسة عائشة عند هذه الحدود، فالبعض ممن عشق البحث في شخصيتها وتاريخها ربط بينها وبين «عشتار» آلهة الحب القديمة المقدسة التي اعتقد أنها ملكة السماء، التي تسكن العيون والأنهار والبحار. مع وجود أساطير مشابهة لأسطورة عيشة قنديشة في تراث شعوب أخرى مثل أسطورة أم الدويس في الخليج العربي وأسطورة ذات الفم الممزق في اليابان وأسطورة النداهة في مصر. وتتقاسم هذه الأساطير قواسم مشتركة مثل عنصر الإغواء الأنثوي وعنصر الرغبة في القتل والجنس وعنصر المكان الذي يكون عادة نائيا وخاليا وعنصر الزمان عند حلول الظلام. إضافة إلى شيوع تلك الأساطير عند سكان القرى، وخصوصا في أزمنة لا يضيء السماء فيها إلا القمر.