الحكاية من الداخل 1.. بقلم/ برهان الخطيب

عن سوء أدب أو غيره يرفع بعض أهل البلد إصبعه الوسطى أحيانا نحو وجه مهاجر، في طريق، بار، أو حديقة. تطوف تلك الإصبع مكبرة لي في حلم، كذلك قرب مبنى النادي، قبيل محاضرة ألقيها بأمسية أدبية، تنتهي وضجر يلاكمني بقفازات غير مرئية، جولة عاشرة أو عشرين.
بعدها نذهب ثلاثة فرسان للعشاء في مطعم شرقي متواضع، عودتي من غوتنبرغ جنوب غربي السويد إلى شقتي في ستوكهولم وشيكة، أفكر ونحن ندخل المكان الدافئ: يمكن كتابة رواية حول تلك الأصبع، ورواية أخرى حول لماذا نحن ثلاثة، وأخرى حول ضجر في فردوس، وجزء آخر أكبر حول لماذا نحن هنا، تفاصيل وافرة تتراكم، رغم دفنها عميقا كنفايات نووية تطل من صمتنا عاليا ونحن نجلس، منذرة بإشعاع أو صخب لا ينتهي عند مائدتنا.
يتردد رافد حين يسأله زميله: مَن يذهب لجلب الأطباق؟ في العيون خوف من دس سم في طعام، لما يزل الكثير حولي أجهله، يطلب رافد من زميله لو يخدمنا، ويمضى الرجل شبه مرغم. ونسكت ينظر أحدنا إلى الآخر..
في السماء خارج قفص المطعم الزجاجي يهدر رعد، يتدحرج دمدمة عفريت فوق الرؤوس منزلقا إلى البحر، تبتلعه الأمواج غير مسموعة هنا في صمت.. في هدوء.. يستفسر رافد مروضا نبرته:
_ طالما نحن وحدنا.. تسألني عن شيء؟
يتجاوز التحفظ، أبقى في ترقب:
_ لا. تريد أنت أن تسألني؟ تفضل..
_ شبعتُ من الهمس في أذنك منذ وصولك غوتنبرغ.. وأنت صاموت لاموت!
أتناسى معلومة وأخرى تضايقني، تحضرني ذكرى أتصورها طريفة:
_ عام 1963 حدثنا أكرم الحوراني في بيته بالشام أنه سأل عبد السلام عارف بمصر بعد ثورة تموز، وناصر قربهما، لماذا أنت ساكت؟ رد عارف عندي خطاب مهم اليوم. لامه الحوراني: وشو يعني، خايف يخلص الحكي، نجيب غيرو!
يلتفت رافد إلى الزميل هناك قرب منصة الشواء:
_ و خطابك للأمسية انتهى و حكينا ما يخلص.. و حضرتك سكوت.. قلة ثقة؟
_ لا أسرار عندي رافد.. الرواية خزانة أسراري.. تدري.
_ لكلٍ سره.. حتى روائي ملعون خصب سرده.
عيناه في عينيّ، تفصلنا المائدة الصغيرة، عنده الكثير يثير شهية السؤال، كذلك عندي له، نفضّل الصمت، لا نصل بالكلام إلى مكان غير الذي نحن عليه. جامد الوجه يرد تحية بعيدة، يتمتم سابرا خفايا:
_ معارفنا بدءوا يقولون صرنا نتشابه.
_ فعلا.. كلانا دبدوب.. شيبوب.. حبّوب.. من نفس المدينة والمدرسة.
_ يقصدون بالأفكار لا بمظهر.. ولا بمتوسطة وغيره قبل ألف عام.
أكرر ما كنتُ قلته يوما: يفكر الناس بطريقة متشابهة يصلون نفس النتائج.
يتلصص من تحت أجفانه المنتفخة:
_ سمعت ذلك منك قبل التحرير بزيارتك الأولى غوتنبرغ، حينه ذكرتَ كلمة صحيحة بدل متشابهة الحالية.. ثالثة لا يريدون.
لا أسأل مَن لا يريد زيارة ثالثة ولا لماذا.. ذلك واضح.. فيلم جديد إخراج قديم!
يتلفت بطيئا: يريدون كشف مَن أنت حقيقة.. لمعرفة كيف التعامل معك لاحقا.
أعاتبه: عدة كتب آخرها عن الغزو غير كافية للمعرفة.. أنا أيضا لا أعرفك إذاً!
يوقف نظرته عليَّ: الأفعال أهم من الأقوال. معرفة العمق مهمة. أنت في النور.
_ وأنت في الظل دائما؟ على أيهما تعتمد بورصة المخاخخات الدولية!
_ على كل شيء.. لا تختبرني في اختصاصي.
بعد قليل يستفسر: أنت جاد بفكرة استقرارك في بيتكم القديم ببغداد؟
_ حتى الحجر المقذوف إلى السماء يعود إلى أرضه أخيرا.
رغم شعور حصار أرى "أخبار آخر الهجرات" تحت الأنظار، بسببه تلك الإحاطة في هذه المحطة. في حزنه المقيم يواصل مبارزة عقلية: نعرف كل شيء، حضرتك صموت، سوسو بوسو هناك تدعوك؟ الآن حتى البيوت زجاجية لا فقط جسورك، والآتي هناك ربما أسوأ من حرب. إنما أفهمك، الوحدة منهكة غير طبيعية، أنا سافرت إلى ليبيا جلبت ابنة أحد رفاقنا زوجة.
أتناسى دهشتي لعلمه بمشروع سفري إلى "سوسو بوسو".. استغرب:
_ ما عرفتني على حرمتك!
_ كانت حاضرة في الأمسية بالصف الخلفي.. حزينة دائما مثل قلبي.
أتوجس الأعماق مثله لكن في مزاح:
_ غير الطبيعي طبيعي في وضعنا حتى تحوَل رفيق لمثابرات.
يرمي هو أيضا عصفورين بحجر:
_ مخاخخات مثابرات مخابرات.. بالتنازل انسجام.
_ لا شيء بقى لتنازل رفيق رافد. كل العراق خسر.. شيوعيين بعثيين إسلاميين ليبراليين.. وأنا وأنت.. دقي يا موسيقى!
_ قريبا ترى بعينك، بوسو هانم تنوي ركوبك، أبطالك هناك يفكرون في قتلك، تضطر لتنازل آخر، تبقى تراوح هنا بالسويد، تستمتع بغربتك، بجهنمك.. تعبيرك.
_ لمضايقات من قوى عنصرية وخفية.. وإلاّ هي نعيم.
_ العنصري مكتّف والخفي مكثّف يغيّر العالم والمثقف مثلك يشكو دائما.
_ تغيير لمصلحة ابن البلد أو لسرقته؟ بحرب أو بتنمية؟ لتأورب أو تشورب؟
_ تبعث رسالة إعجاب لأوربا؟!
_ تقرأ أفكاري.. أو تلك أفكارك يا نائبا عن حالي وخالي؟!
_ أغنية. معظمنا يميز مطلعها.. يا غربة في خيالي.. من مقديشو لمالي!
_ سيد رافد بعد الهجع أراك تطرب لكل أنواع العزف حتى التانغو!
_ الكشف لا العزف، قلها صريحة لا تخف. الوشايات والأخبار تصلنا أخيرا.
_ أخبارك عجيبة فعلا لا أفهمها أحيانا.
يواصل الحفر بكلماته كمثقب رصين في أعصابي: أحاول إثارتك لعلك تصارحني!
_ غريب أمرك رافد.. أصارحك بماذا وأنت تعلم أكثر من عزرائيل؟!
_ نظراتك تخفي شيئا. لا تتردد. لم يبق للتأريخ غير احتقاره.. ذلك شِعرك، وأمس تكلمتَ بأريحية مع صاحبنا عن مثليته، فلماذا تخفي، أنا أصارحك بالكثير!
_ لا أحد ينجو من كلام سوء.. لكن بربك ماذا تتصور أخفي عنك؟
_ بربك ها؟.. وما لقيت غيري تحلّفه!
_ الرفيق الأعلى لينين استنجد به.. أو تبتَ عن اللينينية تحولتَ إلى الليبية!
_ هو ليس الأعلى. أنت تكتب وتستسلم لإغواء المعرفة فلا تستكثرها عليَّ.
_ لو عندي ما يقال عنك وأخبرتك زدتَ وطلبتَ المستحيل.
_ أدري مَن يتآمر كفاح ينفذ تهديده يقول عني جاسوس لينهيني؟ افضحْنا برواية.
_ يا رافد.. الخير أبو النوايا.. رضيعه يرعاه القارئ على صفحاتي.
يسخر رافد في ضغينة: الخير جمهورية غير مستقلة سيد برهان!
يحيّرني بتملصه، أعذله: والأمسية الأدبية، وجلستنا هذه، كيف نفهمها؟!
_ بقايا ماض قديم نرميه إلى مزبلة التاريخ.. تدري أين مكانها؟
_ لا أدري، حتى في بغداد لو سافرت أجد الخير كأي مكان أقصده مع نية طيبة.
_ لا عند حاقدين فضحتَ حيثياتهم برواياتك. الرد انتقام.. ولو في شكل غرام.
أركن تحامله على أصدقاء الماضي، أناور منساقا معه: هذا رأيك؟
_ لا تسمع رأيي خليك على طريقك، "ليلة بغدادية" رواية ناجحة، قصدتني بشخصية مزعل فيها.. خاب حلمه الكبير، غيّر خندقه، ظل محبا لصديقه القديم ووطنه.. ذاته غنية.. لكن ثقافته محدودة.. يصبح ضحية التغيير.. هذا توقعك لي؟
_ أنت من أذكى قراء رواياتي رافد.. من اليوم أسميك رافدين!
_ عشناها سوية قبل أن تُكتب.. عرفنا زواغيرها.. تأثيرها حياة أخرى.. عليه تأريخنا غير عقيم.. لو سلمنا بلا جدوى النزعة التوفيقية.
_ الأفضل برأيك البقاء على تأليه الصراع !
_ الصراع أبدي أبو البراهين، المهم توجيهه لصالحك، باستمالة الحلوين مثلا.
_ صالح الناس واحد تفاريش رافد.. ناس منطقتنا قبل غيرهم..
_ يعني راوح مكانك كلام مثقفين أو نهاية مزعل لإصراره على قيم انتهت.
_ تذكر قمر القناة؟
_ تحته اختار كل منا طريقه تباعدنا أنا للعمل الحزبي أنت للكتابة و.. نلتقي!
_ الناس تلتقي في محطة..
_ بمحطة بغداد القادمة يطلبك قريبا باشا م خ بواسطة سوري.. ينفعك بشغلة.
_ بينغو! دعوتي إلى هنا لتبليغي ذلك.. لكن مَن هو م خ.. و.. باشا؟!
_ نسيتَ التآمر! أعددتَ معه لثورة تموز أيام زمان، ببستان المسيب سيد برهان.
_ غير معقول! معلومتك هذه من ملف غيب.. و.. ماذا يريد فتى صار باشا؟!
_ لم أقل شيئا، تمام؟ باشا ولماذا إمكانياته كبيرة نتركه أيضا.
_ تكشف سرا من غيب ولم تقل شيئا؟ ماذا غيره في ملف أكس وأين مكانه.
_ لكلٍ ملفه.. كَبر.. جنة أو نار.. هذه أيضا جديدة؟ ماذا علمك بونكر ونكير!

قبل النوم أسحب الغطاء أخفي رأسي، أهمس للاقطة النقال: قضيتي وقضية رافد أكبر من جوع معلومات، أدري مَن كان رافد.. مَن صار لا أدري، خطابه القديم يتبدل، تتغير زاوية نظره، يعلم الكثير، من جهة عالمة، الشك يفضح صاحبه أحيانا، الرجل يرى ينطق من جهتين متقابلتين، في ذلك تحذير وخطر. لماذا الاهتمام به؟ تعرف حقيقته تتبيّن وضع البشر، ذلك يعني ثمة ما يُخفى، هكذا توضع كتب عن غفلة أو يقظة. خلاصة: أمامي عمود رواية.. أحتاج أعمدة أخرى.. ذلك للنظري، العملي يتوازى معه، يتعقد، فوق سوسو بوسو وقهر منتظر هناك تبرز ازدواجية رافد، لغز م خ .. من أين جاء به.. مجاهل السفرة تزداد.. ركوب العقل ينبغي قبل طائرة بغداد..
أغفو..
كلماته ترميني خمسين عاما إلى الوراء، إلى أيام البستان المجيدة، إلى ميلاد قربه، إلى ثورة منتظرة، إلى هذيان ونداء بعيد مديد..
_ .. برهان.. اذهب إلى مدرستك.. حرِّكها.. اصنع معنا يا زلمه ثورة..
يتلاشى همس الضيف السوري في دخان، في نخل ودغل البستان، وسواس ذلك الصيف يصير منتصفه ثورة شجعان، حياة تقلب، غبار، أخبار، أسود، أبيض، إلى تشكيل لوني فتان، تهويمات، امرأة المحلة عاشقة معشوقة تكبرني سنوات، حكاية مثيرة عابرة قارات، قوة مراهق محسوسة وأخرى أقوى في كلمات، م خ ينطقها مختصرا من بؤساء هيغو صفحات، تتفجر هتافا بتحفيز من الأم نحو سماوات، يشق الصالة ينير ظلمات، فيلم مصطفى كامل يوقف، الجمهور خارج السينما، تظاهرة تملأ الشارع..

موج يغيض.. يفيض.. يتدفق.. لا يخرس..
رعود لا تظهر في الأنباء.. تعود وتفصح عنها الأصداء!.