مظاهر الأزمة العراقية وسبل التصدي لها

في 9/4/2003م حدث الزلزال الكبير وتم احتلال العراق ،الذي نجم عنه سقوط نظام صدام حسين سقوطا مدويا ، فادى ذلك الى تفاقم الأزمات التي كانت قائمة اصلا طوال الحكم البعثي ، حيث تجلت مظاهرها لاحقا بعد الإحتلال على الصعيد الإقتصادي والإجتماعي والسياسي والحقوقي والعسكري ، وعلى صعيد علاقات العراق الدولية،تجلت مظاهرها في المستويات التالية :
1) المستوى الإقتصادي : النظام الدكتاتوري الساقط حمّل الإقتصاد العراقي مشاكل كبيرة متعددة نتيجة مباشرة لسياساته المتهورة وحروبه المتشعبة الداخلية منها ، ضد الشعب الكردي والقوى الوطنية والإسلامية ، وفي حروبه الخارجية ضد ايران ، هذه الحرب التي استمرت 8 سنوات ، وكلفت العراق غاليا في الخسائر البشرية ، وخلفت خزينة تكاد ان تكون خاوية ، متخومة بالديون المستحقة الدفع ، و حرب الكويت التي اكملت على ما خلفته الحرب العراقية الإيرانية ، من كوارث ، وكانت احدى نتائجها المباشرة وضع العراق تحت البند السابع للأمم المتحدة ، ولا نستثني الحصار الإقتصادي الجائر الذي كان في جوهره حصارا ضد الشعب العراقي الرافض لسياسات الحكومة وصدام حسين .
2) المستوى الإجتماعي : مع بواكير سقوط النظام البعثي السابق ، وعلى الضد من دعوة قوى اليسار العراقي بزعامة الحزب الشيوعي العراقي ، والحركة التحررية القومية للشعب الكردي ، وقوى اخرى الى إقامة نظام اتحادي فدرالي ديمقراطي موحد تتعايش فيه مكونات الشعب العراقي ، من خلال التداول السلمي للسلطة ، ومشاركة الجميع تصاعدت اصوات وجرت ممارسات تدعو الى تفتيت العراق وتقسيمه ما بين المكونات الرئيسية للشعب العراقي ، ما بين العرب السنة والعرب الشيعة والأكراد ، صاحب ذلك تصاعد نبرة عدم الثقة بين المكونات ، ووتيرة القتل اليومي وظاهرة الجثث مجهولة الهوية ، واتساع رقعة الأرهاب وتحول مقاومة المحتل ، الى اعمال حربية ضد المجتمع وعمليته السياسية .
3) المستوى السياسي : بعد ان إحتلت القوات الأمريكية والجيوش المتحالفة معها بلادنا أختفت معالم الدولة العراقية ، وبات البلد بلا اي ممثل للحكومة حتى وان كان شرطيا للمرور ، فتبخرت النخبة السياسية المرعبة للشعب ، والجيوش العراقية الجرارة ، وكل ما يمت الى السلطة السياسية بصلة . واوكلت المهمة للقوات المحتلة لإدارة شؤون البلاد ، فتم الإنهيار الكبير تحت سمعها وبصرها . إنعكس هذا الإنهيار للدولة ولمكوناتها السياسية ومؤسساتها القمعية ،والمنظومة العسكرية والأمنية ، التي كانت نوعاً من الحماية الشكلية للمواطن العراقي الذي كان يجد في مركز الشرطة وفي الحارس الليلي ، وفي شرطي المرور ، وفي الموظف البسيط ، وفي الجندي ، نوع من الحماية رغم الإنفصال والتباعد بين السلطة والمواطن ،اقول إنعكس ذلك في التجاء المواطن الى طائفته المذهبية ، والى قوميته والى عشيرته وقبيلته لطلب الحماية ، فليس غريبا ان تصاعدت في الأيام الأولى للإحتلال الدعوات للتشبث بالمرجعية الدينية ، فرفعت شعارات واضحة تقول إن مرجعيتنا هي قائدنا ، وحاول بعض العقلاء من رجال الدين ، الدعوة للتلاحم وعدم الفرقة ، والدعوة للصلاة المشتركة بين طائفتي الشيعة والسنة ، لتخرج بعدها مظاهرة ضخمة في بغداد يقودها رجل الدين الشيخ احمد الكبيسي وكان شعارها ( اسلام سنة وشيعة هذا الوطن ما نبيعه )
إذن ان الفراغ السياسي ادى للتخندق الطائفي والعشائري رغم محاولة الشيخ احمد الكريمة للوحدة .
4) المستوى الحقوقي : نتيجة مباشرة للإحتلال فقد العراق ، إمكانية تمثيل نفسه في المحافل الدولية ، فكان الحاكم العسكري يمثله ، وتم وضعه تحت البند السابع للأمم المتحدة ، وتعطى له حصة صغيرة من ريع تصدير نفطه وفرضت عليه تعويضات حروب صدام وضحاياها بشكل خرافي ، وتصاعدت فضائح المستفيدين من برنامج النفط مقابل الغذاء ، وساد التخبط بين مكونات الشعب العراقي وقواه السياسية ، فلم يكن من المشاركة للقوى السياسية العراقية ومنهم بعض القوى التي كانت رافضة للإحتلال ، كالحزب الشيوعي العراقي ، في مجلس الحكم المحلي ومن ثم في الحكومات العراقية المتعاقبة الا تأثيرا طفيفا على مجرى الأحداث.
5) المستوى العسكري : تم حل الجيش العراقي ، وتسريح كل الجنود والضباط والمراتب وتركت المعسكرات المنتشرة في طول البلاد وعرضها واصبحت فارغة ، وهجرت الأكاديميات العسكرية بكل صنوفها ، لتصبح محلات سكن للفقراء الذين لا يملكون شبرا واحدا في البلد الغني ! ليواجه ساسة البلد ولتواجه حكوماتها مشكلة العشوائيات بكل ابعادها ، الأخلاقية والإقتصادية والقانونية....الخ ، ولتواجه الحكومات مشكلات الجيش المنحل ومعداته العسكرية التي اصبحت عرضة للنهب، ومشكلات قادته التي تحول معظمهم الى قادة ميدانيين لداعش في هذه الأيام . وليتم الإستعانة ببعض اصحاب الرتب العالية في الجيش الجديد ، ولم تكن هذه الإستعانة موفقة فقد أثيرت الأسئلة حول دور بعضهم في سقوط الموصل بيد داعش !.
6) مستوى علاقات العراق الخارجية : حلت سلطة الإئتلاف الموحد في العراق برئاسة يول بريمر ، واصبح العراق رسميا تحت الإحتلال الأمريكي وحكم سلطته التي استندت في ذلك الى قرار مجلس الأمن الدولي المرقم1483 لسنة 2003 م لتصبح هي البديل عن السلطة العراقية ،هذا الإجراء قوبل بعدم القبول من معظم الدول الا التي شاركت الولايات المتحدة خططها، ولم تعد معظم البعثات الدبلوماسية الى العراق ، وجوبهت مبادرات بعضها بالموقف المعادي من منظمات الإرهاب كما حدث للسفير المصري ، وبالمقابل رفض الإحتلال ، وتصاعد الإرهاب عجلا المحتلين على تكوين شكل من الحكم من القوى العراقية ، التي وجدت صعوبة بالغة في التأثير على الرأي العام في العالم الذي رفض إحتلال العراق .
مما تقدم يمكن القول ان الأزمات القديمة تضاعفت وزاد تأثيرها على بنية الشعب والوطن ، ولم تنته لحد الآن ، رغم الإنتخابات ، وادعاء الديمقراطية، فعلى المستوى الإقتصادي بقي المصدر الأساسي للدخل القومي ناتجا عن تصدير النفط الخام ، وما زالت سرقة المال العام والرشوة ، والفساد الإداري ، هي السمات الأساسية للدولة ، ودخلنا في دوامة جديدة كشف عنها إحتلال داعش لمساحة كبيرة من الوطن العراقي ، وهي ان المبالغ الكبيرة التي صرفت على بناء الجيش والأمن وعلى التسليح لم تثمر عن نتائج تدفع الخطر عن العراق ، ناهيك عن الخسائر في المعدات العسكرية والأسلحة التي استولت عليها داعش فضلا عن سرقتها للنفط الخام وصوامع الحبوب في المدن المحتلة وخزائن البنوك في هذه المدن ، وعلى المشاريع المائية والسدود وعلى مصفى بيجي وحقول النفط ، وعلى المستوى الإجتماعي تفاقمت حدة الخلافات مع إقليم كردستان من قبل وقوع الإحتلال الداعشي واستمر لما بعده ، وطوال السنوات الثمان منذ الإنتخابات الأولى والإنتخابات الثانية ، زادت حدة الخلاف ما بين الحكومة المركزية والمحافظات الغربية ، بدواعي مذهبية ، فشعر ابناء هذه المحافظات بالتهميش الأمر الذي سهل مهمة داعش للإحتلال المشؤوم ، وازداد التجاء
المواطنين الى طوائفهم المذهبية والى عشائرهم ، وحلت بشكل متزايد احكام العشيرة بدلا عن احكام القانون والمحاكم . ولازالت مكونات الشعب العراقي ، ورغم اجواء التقارب والإنفتاح على بعضها البعض التي إنتعشت مع تشكيل الحكومة الحالية ، لازالت تتعامل بحذر مع بعضها البعض ، ويتجلى هذا الحذر في عدد من المظاهر، منها تخوف ابناء المحافظات المحتلة من قبل داعش ، مما يسموه تسلط الحشد الشعبي عليهم ، وبالمقابل تصاعدت اصوات في الجانب الآخر تحذر من تسليح عشائر المحافظات المحتلة للدفاع عن نفسها يقابلها ، افتعال مسببات للخلاف من قبل البعض بدلا من اجواء الثقة . ووضع الموقف الدولي من داعش العراق على ابواب دخول قوات برية امريكية واخرى للدول المتحالفة معها ضد داعش ، وهذا يعني ان نعيش مجددا في موضوعة متعبة اختلفت عليها الآراء والمواقف ، واسهمت الى حد بعيد في معاناة شعبنا ووطننا واعطت ذريعة مقنعة لكل من وقف ضد التغيير والعملية السياسية للإستمرار في موقفه المعادي .
خلاصة القول . الأزمة التي ورد تعريف لها في اليوكيبيديا على إنها نقطة تحول في اوضاع غير مستقرة يمكن ان تقود الى نتائج غير مرغوب فيها ، إذا كانت الأطراف المعنية غير مستعدة او غير قادرة على إحتوائها او درء مخاطرها....1
قد استمرت في ضربها للعراق منذ بدايات الحكم البعثي الى يومنا هذا ، وإذا كنا قد شهدنا تنوعا في تجليها كل تلك السنوات المرة ، على شكل حروب داخلية وخارجية ، شاهدنا ايضا تجليات الأزمة الحالية ، حيث توجت بسقوط اجزاء كبيرة من وطننا بيد الإرهابيين الداعشيين وحلفائهم المعادين للعملية السياسية ، وإن عملية التصدي لهذه الأزمة لا يتم بالأمنيات فقط ولا بالأعمال العسكرية لوحدها ، فالمسألة تستدعي مجموعة من الإجراءات العملية الواقعية ، اجراءات سياسية وإجتماعية وإقتصادية وحقوقية متلازمة مع بعضها البعض لخروجنا من عنق الزجاجة وتخطي المأزق كما يقول العارفون . إجراءات تعالج اسباب الأزمة من جذورها في نفس الوقت الذي تعالج فيه مظاهرها التي استفحلت ، وزرعت اليأس في قلوب المواطنين .
إن اسباب ظهور الأزمات بشكلها الكلاسيكي متعددة ، منها ما هو ذاتي ، وهو ما يتعلق بالأداء البشري والإدارة ، ومنها ما هو موضوعي وهي الأسباب التي تقع خارج نطاق ، سلوك البشر وطرق الأدارة كالكوارث والهزات الخارجية العنيفة ، وفي حالتنا العراقية تمثل في احتلال امريكا وحلفائها للعراق عام 2003 م ، والإرهاب وإحتلال داعش لجزء كبير من الوطن وتدخل القوى الخارجية وتأثيراتها في شؤوننا . وارى إن كل ما تم تناوله في هذه الأوراق يوضح طبيعة العلاقة بين القوى المشتركة في العملية السياسية وعملية المحاصصة التي سادت في تكوين الدولة العراقية ، وعدم ثقة هذه القوى فيما بينها ، ومحاولتها تجاوز بعضها البعض والإنفراد بالقرارات ، والتجاوز على إستقلالية المؤسسات التي يفترض ان تكون مستقلة ، وتغليب المصالح الفئوية والحزبية على المصلحة العليا للشعب العراقي ، وإستخدام المال العام للإثراء على حساب تقديم الخدمات للمواطنين ،وعدم صمود الترقيعات البلدية امام الكوارث الطبيعية ، ونقص الكهرباء والماء الصالح للإستعمالات البشرية ، وقلة تجهيزات غاز الوقود وغيرها وغيرها من الخدمات المطلوبة ، ناهبك عن العلاقة المفقودة ما بين المواطن ودوائر الدولة المتعددة والتي تحولت الى ادوات لنهب الناس عبر الرشاوي والوسطاء .
إن سبل معالجة الأزمة تتطلب الموقف الشجاع من كل القوى للتغيير ، في اسلوب الحكم ، وتغليب مصلحة الوطن على المحاصصة ، والمطلوب اعادة النظر في نظام الإدارة ، وفي تعامل الناس مع بعضهم البعض ، المطلوب استقلالية السلطات الثلاث عن بعضها ، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب واطلاق طاقات الجماهير وعدم التفرقة بين العراقيين على اساس الدين او المذهب او القومية ، وتفعيل الدعوة الى المصالحة الوطنية وطي صفحات الماضي بقبحها والبدء من جديد لبناء العراق الجديد ، ومعالجة الآثار المترتبة عن الإرهاب وعن سلوك داعش العدواني ، وإن ذلك يتم عبر تعزيز الديمقراطية والإحترام المتبادل بين القوى والأحزاب العراقية ، وذلك من خلال المعالجة الصحيحة لكل الأسباب ووضع الحلول المناسبة الناجعة وعقد المؤتمر الوطني الذي يعالج الأزمة من الجذور ومحاسبة السارقين ، والمتجاوزين على الثقة التي يمنحها الشعب لهم وفق القوانين العراقية ، وليس ضمن الفوضى