لا يختلف اثنان من العقلاء في عالمنا العربي المبتلي بالكوارث والويلات والفواجع منذ قرون وما زال، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، بأن "الربيع العربي" الذي بنى الفقراء والمسحوقون والمهمشون عليه الآمال العراض ليكون نافذة الخلاص من سطوة السلطة الفاشية في كل بلد بأذرعها القمعية المخيفة التي لا تعرف غير تكميم الأفواه والصاق التهم الجزاف على من لا يسير في ذات المنحى الذي ترسمه للناس بشتى الوسائل البربرية، ومحاصرتهم في كل شادة وفادة، خصوصا المواطن المشاكس، لا بالمعنى السلبي، بل بالسعي مع شرائح مظلومة للعمل معا لامتلاك ناصية الخلاص من ربقة التسلط ومصادرة الكرامة، وهنا يطول ذكر شطط السلطة القمعية والوصف عصي على الحساب لهذه التجاوزات ضد المواطن المسلوب الارادة بمكابدات تدمي القلوب، لكننا من خلال التهليل والتبريك لهذا الحراك "الربيعي"، سلمنا لحانا عن طيب خاطر ودون وعي مسبق في اغلب الحالات، لمن يسعى لتكريس الخراب والسعي لتأسيس اهداف لتفكيك الأوطان، وإذلال الناس وارجاعهم لعهود مظلومة غابرة، وايقاف عجلة التقدم العلمي والفكري والتكنلوجي، بإنجازاتها الهائلة لخدمة الانسان، لتبرز لنا فصائل، هي بمثابة الامتداد لتنظيمات ظلامية وتكفيرية مرت في ازمنة سحيقة، للعب على وتر "تثوير" الشباب اليافع "إسلاميا". جندت لتحقيق تلك الأهداف الملتبسة، افواج من فرسان موغلين في الخداع والتخفي الحقيقي عن الأهداف غير المعلنة، وكانت اطراف من هذه الأنظمة لا تمانع أن تتحالف مع ابالسة الكون من اجل البقاء على دفة القرار والامساك بتلابيب السلطة بمخالب لا تتوانى أن تمزق اجساد من يطالها اربا، او حتى مجرد التفكير بالاقتراب منها او من اجنداتها الخبيثة، بعد أن انتفضت مجساتها باتجاه أنها مهددة بانتزاع السلطة من تحت اقدامها، فكرست كل ما لديها من طاقات شيطانية، مدعمة ماديا ومخابراتيا وتنظيرا سلفيا متخلفا، وسعت وبشكل مخاتل لسلوك له وجهان، احدهما استظهار البراءة من الاتهامات، وفي الباطن غذت الحركات الارهابية بالمال والسلاح والدعاية، وفتحت الابواب على مصاريعها لفتاوى القتل والموت والتكفير وحروب ابادة "المارقين" وسفك الدماء البريئة بأموال البترودولار اللعينة، ناسين او متناسين، ان من يزرع الشر لا شك انه حاصده، لأن الاجرام المتمثل بحروب الابادة الهمجية الظالمة بحق الأبرياء، لا دين ولا ملة ولا قيم له، وبالتالي تصل ذات السكين لعنق من يحرّض على هذا الجنون الأرعن، فنراهم يتراجعون عن مواقفهم الخبيثة الداعمة للقتلة والمجرمين من ارهابيي القاعدة وداعش وبقية الجوقة السلفية المجرمة، فماذا حصل اذن؟ وكيف وصل بنا الحال لهذه الوضعية الكارثية المخيفة؟ استطاع المتربصون بالحراك العفوي والمتصيدون في المياه الآسنة من مسك العصا من كل أطرافها، بحيل ومخاتلات لا عد لها، ليباركوا في البداية ذلك الهياج بعفويته وغضبه غير الموجه وغير المشروط ضد أنظمة التخلف والاستبداد، واحتلبوا ما امكنهم احتلابه من أموال ودعم وتوظيف ليبدا مسلسل الخراب المخطط له من وراء ظهور اليافعين والبسطاء، وهذا الفعل الخبيث تعود بداياته منذ احداث أفغانستان، ودخول دول عربية وحركات إسلامية وشخصيات ظلامية على الخط بقوة، لمباركة هذا المد الجماهيري العفوي، وتجنيد كل الإمكانات له املا في التخلص من أنظمة علمانية وأخرى معادية للإسلام بحسب ظنهم، مجندين الالاف من المغرر بهم في هذا الملف الطلاسمي وشن حملات إبادة بربرية بحق الملايين من الأبرياء ليتواصل هذا المسلسل المخيف منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الساعة. وما نحن فيه الان هو ظهور حركة داعش التي لها من القوة البشرية والعسكرية والمالية والإعلامية كما أبانت، ما تضاهي إمكانات دول غنية، لتقض إمكانات دول لها من القوة العسكرية الكبيرة ما لا يمكن تصديقه، ذلك ان هذه الحركة اكتسحت جيوش تلك الدول والحقت الهزائم النكراء بها، واحتلت مساحات شاسعة منها، وأعلنت رسميا تأسيس "دولة الخلافة" وهي الان تخوض معارك شرسة مع جيوش تلك الدول بما فيها الدول الكبرى. فما الذي جرى وكيف وصلنا لهذا الواقع المرير الذي دفع بهذه الفلول المجرمة المكونة بمعظمها من مقاتلين أجانب أتوا من اصقاع مختلفة، ليتعرض الناس لحرب إبادة ومسلسل من الجرائم التي ما عرفها تاريخ البشرية منذ عصوره السحيقة؟ ان علامات استفهام عديدة تدفع بالمراقب ان يضعها امامه لتشكل ظاهرة تقض مضاجع الباحث عن الحقيقة، ليقف حائرا لهذا الملف الملتبس والغامض والغريب بكل ابعاده ومكوناته وتفاصيله. هل ان هؤلاء القتلة وسفاحي دماء الأبرياء قد هبطت من اجرام أخرى مثلما الغيث الهابط من الأعالي، لتكتسح بهذا المد المخيف جيوشا واراض وإمكانات بشرية هائلة، لتتسيد على تلك البلدان وتعود هي صاحبة القرار والمبادئة بالهجوم والحاق الهزائم المنكرة باعرق جيوش في المنطقة؟ لا يختلف اثنان من المحللين المنصفين والمراقبين الموضوعيين للأحداث، ان ما يقع الآن في العراق وسوريا يفوق التصور ليصبح امرا عصيا على الفهم وكشف ملابسات ما يحدث. كلنا يعلم أن الحركات السلفية "الجهادية" تتكون من مجندين يافعين لا يملكون من القدرات القتالية ابسطها، وهي المتواضعة جدا، ونعرف كذلك أن سلاحهم الوحيد هو العمليات الانتحارية الجبانة والتي لا تتعدى تفخيخ جسد الشاب ليفجر نفسه في تجمعات وأسواق وأماكن يتواجد فيها الأبرياء، بعيدا في احايين كثيرة عن العسكر وقوى الأمن، إضافة الى السيارات المفخخة والعبوات الناسفة، "طمعا في الحصول على مكان في الجنة والاستحواذ على الحور العين"، يسهل مهمتهم الانذال من بعثيين ومنحرفين من أبناء الوطن الذي هو برئ من افعالهم وما يقومون به من جرائم لا يمكن تصورها، من بقايا مجرمي البعث والمتضررين من عملية التغيير بعد العام 2003، ومهما بلغت المعونات التي تقدم لهم من حواضن ودعم عسكري، ومدهم بشباب العشائر الذين لا يميزون بين الوطن والمحتل، لبساطة تفكيرهم وضحالة وعيهم، لا يمكن أن يصل بهم الحال لامتلاك مثل هكذا قوة عسكرية هائلة بأسلحتها ورجالها وخططها واحتكامها على أموال هائلة، لتكون ندا حقيقيا لدول كبيرة، وتحقق كل هذه الإنجازات على ارض ليست بارضها وتهجير ساكنة تلك المناطق بامتداداتها ومكوناتها وعشائرها واصالتها، ان لم تكن على قدر كبير من الإمكانات التي لا نعرف من اين تأتي، وما هي المصادر الساندة لها، رغم تبرير المراقبين ان الجهات الممولة والداعمة لها كلها اطراف معروفة. بات اذن الان لدى القاصي والداني ان حركة "داعش" اذا ما تركت تصول وتجول في المنطقة دون تدخل محلي ودولي وبشكل سريع وتعاون بين كل الأطراف المتضررة من أفعال هؤلاء القتلة والذين سيلحقهم الضرر يقينا، سيبقي العالم في حيص بيص، وتبقي اصقاع كل الكون تغلي خوفا من سطوتها وبشاعة افعالها، وهذا متروك لذوي الاختصاص من سياسيين وعسكريين واعلاميين ومنظمات مجتمع مدني ومكونات مستهدفة، يهددها المحو الكلي وسواها من مكونات هي طعم حقيقي لهؤلاء الساديين، ولا ينبغي على أي كان، ومهما بعد عن المناطق الساخنة واستهدافات داعش لها، أن تكون يمنأى عن نيران هذه المنظمة المتوحشة، والتي ستتناسل بعدها اذا ما الحقت الهزيمة بها، منظمات اشد تطرفا وفتكا وعدوانية كما حصل مع القاعدة ومقارنتها بداعش. وهنا فأن العالم بأجمعه أولا، والعربي والإسلامي ثانيا، مدعو لأن يجد الحلول الواقعية لهذه الظاهرة ومعالجتها من جذورها، لأن الحل العسكري والأمني لا يمكن أن يكون ناجعا إن لم تتم معالجة هذا المد الظلامي ومعرفة أسبابه ودوافعه، ووضع الحلول لاجتثاثه من جذروه. والأمر بالتالي متروك لذوي القرار الأخير.
|