نظم لا تحترم القلم

ما فائدة العلم والقلم, وما فائدة التعليم في الأنظمة التي لا تحترم أصحاب الكفاءات العلمية ولا تهتم بهم ؟, وما جدوى التعليم في الأنظمة التي وضعت العلم تحت أقدامها وداست بأرجلها فوق هامات العلماء ؟, ومتى تتحقق النهضة العلمية المنشودة في البلدان التي دفنت ثرواتها في المصارف السويسرية, وخسرت مليارات الدولارات على طاولات الروليت, أو في ملاعب كرة القدم, أو في تغطية نفقات حملات التضليل الإعلامي, أو في تمويل المنظمات والمليشيات التي صارت البنادق لسانها الناطق. . وما فائدة التعليم والتعلم في البلدان التي يدرس الشباب في جامعاتها ومعاهدها ليتسكعوا بعد التخرج على أرصفة الضياع, أو في مقاهي البطالة ؟, وما فائدة الجامعات والكليات التخصصية إذا كانت الاختصاصات لا قيمة لها في التوظيف ولا في الترقية ولا في التنسيب ولا في الممارسات العملية ؟. . وما فائدتها في البلدان التي صارت فيها الولاءات الطائفية هي المعيار القياسي في تنصيب الوزراء والمدراء ؟, وما فائدة الاختصاصات العلمية النادرة إذا كانت كياناتنا السياسية لا تؤمن بمبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب, ولا بمبدأ أعطي الخبز لخبازته, وترى ان المراكز المرموقة ينبغي أن تعطى للأحباب والأصحاب, وتظل حكرا عليهم وعلى المنتمين إليهم والموالين لهم ؟. . وما فائدة الاختصاصات العلمية النادرة في البلدان التي صار فيها الطبيب وزيرا للمالية, في الوقت الذي تعج فيه البنوك والمصارف بخبراء المال والاقتصاد, وما فائدة الاختصاصات العليا في البلدان التي صار فيها الحقوقي وزيرا للزراعة في الوقت الذي تراكمت فيه عندنا الاختصاصات الزراعية النادرة في الجامعات والمؤسسات والمختبرات والحقول الإنتاجية, وما الذي نقوله للبلدان التي صار فيها البيطري وزيرا للشؤون الاجتماعية, والجيولوجي وزيرا للإعلام, والتربوي وزيرا للنفط, والصناعي وزيرا للأوقاف والشؤون الدينية. . كنا نحن العرب أول من التزم بتنفيذ وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأول من سار على نهجه في مواصلة طلب العلم من المهد إلى اللحد, فنلنا ارفع الدرجات العلمية, وحصلنا على أعلى الشهادات المهنية, لكننا وجدنا أنفسنا في نهاية المطاف بلا شغل ولا عمل, اما الذين حالفهم الحظ في التعيين وافنوا زهرة شبابهم في العمل المضني فقد تسيد عليهم من هم دون منهم في الخبرة والخدمة الفعلية, وفي الشهادة والكفاءة, وفي العفة والنزاهة. . كنا نحن العرب أول من سعى لطلب العلم حتى ولو كان في الصين, فشددنا الرحال إلى شنغهاي, وعبرنا البحار والمحيطات إلى بريطانيا وألمانيا وأمريكا وروسيا واليابان, لكننا عدنا لنجد أنفسنا خارج التشغيل والتفعيل والتغطية, فتكدست ملفاتنا في أقبية التعطيل أو طواها النسيان فوق رفوف التأجيل. . اما الذين أحرزوا تفوقا مذهلا في فضاءات العلوم والفنون والآداب, وشهد لهم العالم كله بالذكاء والنبوغ والعبقرية, فإنهم لم يسلموا من بلدوزرات التنكيل, ولم يكونوا بمنأى من البطش والنفي والملاحقة على يد أزلام السلطات, التي برعت في تنفيذ مشاريع وأد الكفاءات وقتل المهارات, وعادت بعجلة الزمن إلى القرن الهجري الأول. . . ليس المهم ما يحمله العربي من ذكاء ومواهب ومهارات ومؤهلات وقدرات علمية وإدارية ومهنية, لكي يتبوأ المركز الذي يليق به, المهم هو كيف يستفيد من ذكائه في التسلل إلى صفوف التنظيمات الحاكمة حتى يتغلب على من هم أكفأ منه, وأفضل منه, وأقدم منه, وأنزه منه. فالغاية تبرر الوسيلة في معظم شركاتنا ومؤسساتنا, وبات من السهل تحقيق المزيد من القفزات الإدارية في غابات المناصب الزئبقية, التي أصبحت متاحة الآن لمن يريد التقدم على حساب غيره في هذه الفوضى الإدارية العارمة, التي اجتاحتنا ففجرت النزعات الطائفية والمذهبية والقومية والعشائرية والتنظيمية. . . وليس المهم أن يكون العربي خبيرا بارعا باختصاصه حتى يتدرج في السلم المهني نحو الأعلى, فينال استحقاقه الوظيفي بموجب السياقات الإدارية الشائعة في عموم أقطار كوكب الأرض, فالمهم في المقام الأول أن يكون منتميا للكيانات السياسية الكثيرة المستحوذة على مصادر المال والقوة والجاه والسلطة. . فلا تبتئس بعد الآن إذا كان رئيسك في العمل أدنى منك في الشهادة, وأقل منك في الخبرة والتجربة والخدمة, فمثل هذه النماذج الساذجة صارت هي التي تقود المؤسسات الحكومية في البلدان العربية كافة, وذلك في ظل سياسة وأد الكفاءات, وغياب معايير التوصيف الوظيفي النوعي القائم على الأسس التنافسية العادلة. . سُئل رئيس وزراء اليابان عن سر التفوق التكنولوجي في بلاده, فقال: لقد أعطينا أصحاب المواهب والمهارات الإبداعية الفذة راتب وزير, وحصانة دبلوماسي, ومكانة إمبراطور, وسئلوا مهاتير محمد عن سر القفزات النوعية التي سجلتها بلاده, فقال: عندما أردنا الصلاة توجهنا صوب مكة المكرمة, وعندما أردنا بناء بلادنا توجهنا صوب اليابان. . اما نحن فقد مَنَّ الله علينا بالخيرات الكثيرة, والنعم الوفيرة, والثروات الطائلة لكن حكوماتنا لم تحسن التصرف, ولم تستثمرها في الاتجاه الصحيح, ولم نستفد منها نحن حتى الآن. . . والله يستر من الجايات