إنما أوتيته على علم

 

التصورات الخارجية التي يبنى عليها الفهم الحقيقي الذي يرتكز على تنوع الاتجاهات الفلسفية في معرفة البيان القرآني، لا ترقى بالإنسان إلى النهج القويم، إلا إذا جعل هناك نسبة بين الإدراكات العملية المستمدة من الحجج والبراهين وبين معطياتها العلمية التي تظهر على أرض الواقع، وذلك قبل أن يرجع تلك النسبة إلى الطرق اليقينية، دون أن يصرفها عن الموازين الثابتة عند التفريق بين النظريات وما يقابلها من الحقائق التي لا يطرأ عليها أي تغيير، وأنت خبير من أن القرآن الكريم قد تطرق إلى الحديث عن الحقائق العلمية، ومدى توافقها مع النظرة الإعجازية التي أشار إليها على سبيل الإحكام، ثم استخرج منها التفاصيل الدقيقة التي تبين الدلائل الفعلية لذلك الإحكام، دون أن يجعلها بمنأى عن الاعتقاد بصحة المضامين القرآنية، التي تُرد إلى المجموع الكلي الذي يُسهم في توافق المشتركات العرضية، التي تؤدي إلى التعاقب السليم في رسم المنهج البياني الذي يُظهر التشريعات القرآنية على أتم وجه مما يجعل الطريق سالكاً إلى معرفة الحقائق القرآنية، وتنوع اتجاهاتها من حيث الخطاب العام الذي ينتقل به من دليل إلى آخر، دون أن يكون هناك تناقضاً في الفهم.

من هنا يظهر للمتأمل مدى اختلاف الخطاب العام في تفاصيله من الجهة الموضوعية، دون الجهة الكشفية التي تعتمد على التذكير بالآخرة، من خلال الترغيب والترهيب، وكذا الوعد والوعيد، إضافة إلى ما يلقى إلى العقل بطريقة مباشرة أو ما تتوسط به الغوامض الكونية، عندما تتجسد بشكل يجعلها تتقارب مع ما تدل عليه المتفرقات التي تحاكي الواقع العملي للإنسان، وارتباط ذلك الواقع مع المنظور الشامل المشار إليه في الكتاب التدويني، وبناءً على هذا نعلم أن الأسلوب القصصي يلازم المجال الأوسع في نقل الوقائع المشاهدة للإنسان في حاضره إلى ما وراء الألفاظ والمعاني التي يتلقاها، دون الابتعاد عن الحالات المرتبطة في حياته العملية، وما يجري له من الأمور الحادثة على تعاقب الفترات التي تمر عليه بالإضافة إلى إرجاعها إلى ما يتوافق مع المنهج المقرر للدور الريادي في بناء القصة القرآنية، وما ينتج عنها من العبر.

وبناءً على ما تقدم نرى أن التماثل في القصص القرآنية يعتمد على أبعد الوجوه التي تُعرض في السياقات الحافلة بالوقائع، القائمة بين زمنين أو أكثر، مع ملاحظة عدم الركون إلى الزيغ البشري، أو الأهواء السائدة في المجتمعات التي يحق لها أخذ العبر من خلال ما يتوافق مع البناء الواقعي المعتاد لديهم، مما يجعل لتلك المشاهد كثيراً من المميزات التي لا يمكن أن نجدها في سرد آخر خلاف القرآن الكريم، ولا يخفى على المتأمل مدى الصدق والحسن المرافق للأحداث التي تبينها القصة القرآنية "ومن أصدق من الله قيلاً" ولهذا وصف تعالى المشتركات الفعلية للقصص التي وردت في القرآن الكريم، باعتبار مصدرها أولاً، وكذا أمانة من نزل بها ثانياً، وعصمة من تلقاها ثالثاً، ومن هنا نرى حجم تلك المشتركات التي قامت بإظهارها على هذا الوجه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا ما بينه تعالى بقوله: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) يوسف 3. وكذا قوله: (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) الأعراف 176.

فإن قيل: ما هي الفائدة التي يمكن أن نحصل عليها من القصة القرآنية مقارنة مع غيرها من القصص؟ أقول: هناك عدة فوائد يمكن الحصول عليها، من خلال القصة القرآنية دون غيرها من القصص أهمها:

أولاً: تثبيت قلب النبي "صلى الله عليه وسلم" وهذا الأمر لا يقتصر عليه بل يجري في أمته من بعده ولهذا نجد أن ما حصل للأمم السابقة قد لا يختلف كثيراً مع ما يحصل لهذه الأمة من ظلم وابتلاء، ولذكر هذه الأحداث في القرآن الكريم الدور الأكبر في تهدئة النبي وتثبيت قلبه، مما يجعل لقومه أسوة حسنة باتباع هذا المقام الرفيع والمنزلة العالية ولهذا نرى أن القرآن الكريم قد بين هذا الوجه على أتم بيان، كما في قوله تعالى: (وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) هود 120.

ثانياً: تمهيد الطريق للنبي ولأمته من بعده، وذلك عند إظهار الهداية التشريعية، التي لا تفارق الأنبياء مما يجعل الأمر موجهاً للنبي باتباع أولئك الأنبياء والاقتداء بهم، ولكن من حسن أدب القرآن الكريم مع النبي اختلف الخطاب، ولذا كان الأمر الموجه إليه بأن يقتدي بهداهم لا بهم، كما في قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) الأنعام 90.

ثالثاً: التعرف على الأعمال السيئة التي كان يتصف بها الناس، في العصور والأزمنة السابقة، كالعلاقات غير الشرعية التي كانت تمارس من قبل قوم لوط، وكذا ما كان يقوم به أصحاب الرس من أعمال باطلة وهذه الصفات لا يمكن التعرف عليها لو لا ذكر القرآن الكريم لها، وإن كان الأمر الثاني "أعني ما كان يفعله أصحاب الرس" لم يذكر صراحة في القرآن إلا أن الأحاديث النبوية قد بينته على أتم وجه.

رابعاً: التعرف على العقائد الفاسدة وبيان عدم صحتها، كما هو الحال في جعل الملائكة بنات الله، أو نسبة الولد إلى الله تعالى، وما إلى ذلك من الأفعال التي ابتلي بها الكثير من الناس، وقد بين سبحانه هذا المعنى بقوله: (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون***أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون***ألا إنهم من إفكهم ليقولون***ولد الله وإنهم لكاذبون***أصطفى البنات على البنين***مالكم كيف تحكمون) الصافات 149-154. وكذا قوله: (ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) مريم 35. ثم أنزل تعالى هذا الأمر منزلة الإنذار، وذلك في قوله: (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً) الكهف 4.

خامساً: نبذ العرف الاجتماعي الذي كان سائداً في بعض القبائل العربية، ومن الأمثلة على ذلك، تفضيل الذكور على الإناث، وقد بين الله تعالى هذا الأمر في بعض مواضع القرآن الكريم، كما في قوله: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم***يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون) النحل 58-59. وكذا قوله تعالى: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم) الزخرف 17. وقد يلحق بهذا الأمر قتل الأولاد من كلا الجنسين، بسبب الفقر، ولهذا نهى الله تعالى عن ممارسة هذا العمل، كما في قوله: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم) الأنعام 151. وقريب منه الإسراء 31.

سادساً: محاكاة الواقع المعاش من خلال التطبيقات القصصية وما كان يفعله الطغاة دون اعتبار من التأريخ المشاهد لديهم من خلال آثاره، أو القريب منهم، ولهذا نزل بهم عقاب الله تعالى، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومن أهم تلك الأمثلة ما كان من أمر قارون، كما هو ظاهر في الآيات التي تحدثت عنه باعتباره من قوم موسى ثم بغى عليهم، ولهذا ذكّره قومه بالطرق والأساليب الفاسدة التي كان يتبعها، إلا أن قارون كان يعتقد خلاف النصح المقدم إليه من قبل قومه، دون أن ينظر إلى فعل الله تعالى بالذين سبقوه، وكانوا أشد منه قوة وأكثر جمعاً، وهذه هي النتيجة الملازمة للإنسان الذي لا يعتبر بالتأريخ وبالإضافة إلى هذا فإنه كان يظن أن الطرق التي جمع بها المال، لا تخرج عن قدرته وعلمه، ولهذا تمسّك بشعاره وقوله الذي كان يردده وهو: (إنما أوتيته على علم عندي) القصص 78. ومن هنا رد الله تعالى عليه بقوله: (أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) القصص 78. هذا ما لدينا وللمفسرين في الآية آراء:

الرأي الأول: قال ابن عجيبة في البحر المديد: يقول الحق جل جلاله: (قال) قارون: (إنما أوتيته) أي: المال (على علم عندي) أي: على استحقاق مني، لما فيّ من العلم الذي فضلت به على الناس، وهو علم التوراة، وكان أعلم الناس به بعد موسى وهارون، وكان من العباد ثم كفر بعد ذلك، وذكر القشيري: أنه كان منقطعاً في صومعته للعبادة، فصحبه إبليس على العبادة، واستمر معه على ذلك، وهو لا يشعر إلى أن ألقى إليه، إن ما هما عليه من الانقطاع عن التكسب، وكون أمرهما على أيدي الناس، ليس بشيء، فرده إلى الكسب بتدريج، إلى أن استحكم في حب الدنيا والجمع والمنع، ثم تركه. انتهى كلام القشيري. وأضاف ابن عجيبة: وقيل: المراد به علم الكيمياء وكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهباً. أو: العلم بوجوه المكاسب من التجارة والزراعة، أو العمل بكنوز يوسف.

وأضاف في البحر المديد: قال تعالى: (أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً) أي: أو لم يكن في علمه، من جملة العلم الذي عنده، أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه وأقوى وأغنى، وأكثر جمعاً للمال، أو أكثر جماعة وعدداً، وهو توبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله، مع علمه بذلك، لأن قرأه في التوراة وسمعه من حفاظ التواريخ، أو نفي لعلمه بذلك، لأنه لما قال: (أوتيته على علم عندي) قيل له، أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة، ولم يعلم هذا العلم النافع الذي هو الاعتبار بمن هلك قبله، حتى يقي نفسه مصارع الهالكين. (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) لعلمه تعالى بعملهم، بل يدخلهم النار بغتة، أو يعترفون بها بغير سؤال، أو يُعرفون بسيماهم فلا يُسألون، أو لا يُسألون سؤال توبيخ، أو لا يُسأل المجرمون من هذه الأمة عن ذنوب الماضين.

الرأي الثاني: يقول فضل الله في من وحي القرآن: (قال إنما أوتيته على علم عندي) فلا دخل لله في ذلك فقد خلقني الله من عدم، وهذه حقيقة أؤمن بها، ولكن المال الذي أملكه كان نتيجة جهدي الذاتي، وفكري المتحرك، في اتجاه مواجهة الأوضاع الاقتصادية في الحياة بالتخطيط الدقيق، والحركة الزكية الدائمة والوسائل المتنوعة، والوعي الكبير، وهذه هي النتيجة الطبيعية للعلم الذي أملكه والإرادة التي أحركها وهذا هو منطق المستكبرين الغافلين الذين يرتبطون بالأمور بشكل مباشر من خلال الحس السطحي، ولا ينفذون إلى أعماقها في جذورها الحقيقية الممتدة في عمق الأسباب الكامنة في واقع الأشياء.

ويضيف فضل الله: وهذا هو الذي حدثنا الله عنه في أكثر من آية، كما في قوله تعالى: (فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون***قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون***فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين***أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) الزمر 49-52. وفي قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثاراً في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون***فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) غافر 82-83. وهكذا كان هؤلاء ينطلقون في تفسيرهم وتقييمهم لما حصلوا عليه من نتائج ومواقع وأموال كبيرة، من طبيعة نبوغهم العلمي على أساس العلاقة بين الأشياء وأسبابها المادية، ولا يحاولون الرجوع إلى طبيعة هذه الأسباب، وعلاقتها بالنظام الكوني الذي أودع الله في داخله قوانينه الطبيعية وسننه الاجتماعية، ووسائله المادية، مما لم يكن له أية إمكانية في الوجود بعيداً عن إرادة الله وقدرته في حركة الحياة والإنسان، الأمر الذي يجعل العلم من مفردات النظام العام للوجود، وليس هو السبب الوحيد من جهة، كما أنه ليس شان الإنسان باستقلاله من جهة أخرى، لأنه هبة العقل الذي خلقه الله، وحركة الحواس التي أبدعها الله.

انتهى موضع الحاجة من كلامه.. ومن أراد المزيد فليراجع تفسير من وحي القرآن.