لا يزال المواطنون في المحافظات يئنون من المركزية المفرطة التي تمارسها وزارات ومؤسسات الحكومة الاتحادية خلافاً للدستور العراقي الذي يتبنى اللامركزية ويمنح المحافظات حق تشكيل الأقاليم والنظام الفدرالي الذي يمثل مرتبة عالية من اللامركزية، لكن واقع الحال يملي على مواطني المحافظات أن يكابدوا عناء الرحلة الى بغداد في كل صغيرة وكبيرة، على سبيل المثال لا الحصر، يترتب على ابن البصرة الذي يفقد جواز سفره أن يأتي الى محاكم بغداد ويتحمل معاناة المراجعات الماراثونية وتكاليفها الغالية من نقل وسكن وما يتبعها، وهنا نتساءل: لماذا هذا الإصرار على ممارسة الفوقية على المحافظات وتكبيد مواطنيها معاناة لا مبرر لها؟ وما معنى الحديث الدائم عن منح المزيد من الصلاحيات للإدارات المحلية في المحافظات اذا كان الامر بهذا الشكل؟.بالرغم من ان الدستور وقانون المحافظات يشرعان ويتبنيان اللامركزية، الا ان المحافظات لا تزال بعيدة عن ممارسة اللامركزية، إذ بحسب الخبراء يتطلب تحويل العراق من دولة مركزية الى دولة لامركزية إعادة النظر بأكثر من عشرين ألف قانون وتعليمات ونظام، وهو أمر يحتاج الى وقت طويل، لكن لابد من الإسراع بتحضير الأرضية والخطة والقوانين اللازمة تمهيداً لتطبيق النظام اللامركزي، وهي خطوات قد بدأت بالفعل لكنها بطيئة بسبب تمسك الوزارات الاتحادية بالصلاحيات. وقد كانت سبع محافظات قد بدأت كوادرها القانونية منذ وقت ليس بالقليل مع الوكالة الاميركية للتنمية الدولية لتحويل صلاحيات ثلاث وزارات لنطاق عملها وهي وزارات التربية والصحة والبلديات كمرحلة اولى في وقت تؤكد فيه المحافظات جاهزيتها لتحمل ترتيبات تحويل الصلاحيات اليها، وقد مرت سنتان تقريباً منذ صدور القانون رقم 19 لعام 2013، وتطالب المحافظات بفك ارتباط ثماني وزارات بالحكومة المركزية وتحويل صلاحياتها للحكومات المحلية لتلعب دوراً اكبر بعملية التنمية واعادة الاعمار، الا ان تحقيق ذلك يبقى وبحسب مختصين مرهوناً بما تبديه الحكومة المركزية من جدية في عملية فك الارتباط. منذ سنوات تطالب المحافظات بتسريع عملية نقل صلاحيات الوزارات المركزية اليها لتتمكن الادارات المحلية من تنفيذ برامجها الخدمية وادارة المشاريع، لكن هذه المحافظات تشكو التباطؤ في تفعيل قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم، وهو قانون جاء لتلبية الحاجة الفعلية لتنظيم العلاقة بين المركز والحكومات المحلية، وهو ضروري لتجاوز وتلافي الروتين في الاجراءات الادارية، وتفعيل القانون كان من المقرر ان يدخل حيز التنفيذ منذ العام الماضي، لكن ما لمسناه هو أن الوزارات غير راغبة في تطبيق القانون لانها تعتقد انه يسلبها جزءا من صلاحياتها وينقلها الى المحافظات. إن تطبيق القانون سوف يسهم في تفعيل عمل الإدارات المحلية وتنفيذ خططها وبرامجها الخدمية والتنموية وحل المشاكل العالقة ومتابعة المشاريع الوزارية المتلكئة، ولا بديل عن تطبيق قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم كونه سيعالج كل المعوقات والاشكاليات التي تواجهها الحكومات المحلية من الروتين الاداري، ويعطي نظام اللامركزية الإدارية الذي يدار طبقاً له نظام الحكم في العراق، صلاحيات كبيرة لمجالس المحافظات والمحافظين استناداً للدستور العراقي وقانون المحافظات وتحديدا ما أشير له في المادة 45 من قانون التعديل الأخير لقانون 21 المعدل في 14 آب لعام 2013، حيث تنص المادة 45 من قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم 21 لسنة 2008 المعدل على أن تؤسس هيئة تسمى "الهيئة العليا للتنسيق بين المحافظات" برئاسة رئيس مجلس الوزراء وعضوية وزراء البلديات والأشغال العامة، والإعمار والاسكان، والعمل والشؤون الاجتماعية، والتربية، والصحة، والتخطيط، والزراعة، والمالية، والرياضة والشباب، ووزير الدولة لشؤون المحافظات، والمحافظين ورؤساء مجالس المحافظات. إن الدولة الاتحادية تؤسس لمستقبل أفضل من خلال الخروج من دائرة المركزية المفرطة التي عانى منها العراق ولا يزال، حيث كل شيء مرتبط بالمركز، والاهتمام منصب عليه، في حين تم إهمال المحافظات التي تعاني من قصور في الجوانب التنموية بمختلف أنواعها، ما جعل أبناءها يشعرون وكأنهم يقعون في دائرة النسيان والإهمال. ان الفيدرالية التي يتبناها الدستور العراقي تمثل خروجاً من دائرة المركزية وتخلق شراكة أوسع في السلطة، وتوزيعاً أكثر إنصافاً للثروة، ليصبح لكل إقليم مساحة من الحركة فيما يتعلق بتحصيل موارده وإنفاقها في أوجه التنمية المختلفة، ومن ثم تتوزع المسؤوليات والاختصاصات على نحو يتجاوز نظام الحكم المحلي، ويشعر المواطنون بمسؤولية خاصة إزاء أقاليمهم، كما يتولد قدر من التنافس بين الأقاليم المختلفة، ليرفع وتيرة العمل، ويحسن مستوى الأداء، بما يصب في نهاية المطاف في مصلحة الإقليم والوطن. إن التنوع في الموارد في حد ذاته سواء كان على مستوى المكون السكاني، أو الثقافي أو المنتجات، مرتبط بتحقيق الثراء على مستوى العموم الوطني، وبما يخلق حالة من التكامل، فالعراق يتمتع بتعدد مكوناته، وتنوع ثرواته الطبيعية، ولم تستطع الدولة الدكتاتورية المركزية سابقا الافادة من هذا التميز، بل أهدرت هذا التنوع، وفرطت في هذه الثروة. العراق يتمتع بمقومات سياحية تجعله دولة سياحية من الطراز الأول، لكن ضعف إدارة الدولة، وقصور بعض السياسات، وضعف التخطيط العلمي، فضلاً عن الوضع الأمني بالطبع، جعل العراق دولة طاردة للسياحة من الطراز الأول، ومن المؤمل تغير هذه الممارسات في ظل الدولة الفيدرالية الاتحادية، فلن يكون أمام كل إقليم غير التفكير في مكامن تميزه، والعمل على تنميتها وتطويرها، حيث إن التنافس بين الأقاليم في أي مجال من المجالات عادة ما يقود إلى الأفضل، ولن يكون أمام الأقاليم في المستقبل سوى العمل على نحو تنافسي، ومن منطلق شعور القائمين على أمر الأقاليم بمسؤوليتهم عنها، وحسن تحصيل مواردها الاقتصادية وإنفاقها بما يحقق أقصى درجة من النفع لهذه الأقاليم وتنميتنها وتطويرها، إذ ستكون المقارنات حاضرة عند الناس بين أداء القائمين على السلطة في هذا الإقليم وذلك، ما سيمثل ضغطا على سلطة الإقليم لأن يكونوا على مستوى المسؤولية، وأن يعملوا قدر المستطاع للوفاء باحتياجات المواطنين على مستوى الإقليم، وتحقيق العيش الكريم لهم. إن التعايش السلمي ثقافة يتوجب غرسها في صدور العراقيين، فالنسيج الاجتماعي العراقي نسيج واحد، وإن تنوعت تجليات مواطن العيش والإقامة، وهذا هو ما شعر به العراقيون وعاشوه طوال سنوات المحنة، ولا شك ان ظهور "داعش" والتصدي لها أذكى مشاعر التوحد في قلوب العراقيين، وعمق مشاعر الأخوة بينهم، وهذا هو الأصل، وما دونه عرض زائل، ومن ثم فثقافة التعايش السلمي بين العراقيين، يتوجب أن تكون حاضرة في ظل الدولة الاتحادية الجديدة، فالأقلمة لا تعني أكثر من توزيع الصلاحيات والمسؤوليات على نطاق أوسع، ولا تعني خلق فواصل نفسية بين الشعب، او المساس بالنسيج الاجتماعي على أي نحو كان.
|