قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم

 

المعارف الكلية التي تتفرع منها التوجيهات القرآنية المتخصصة في الشأن التربوي وإن لم تكن من أركان الإيمان إلا أنها تدخل ضمناً في مصاديقه لأجل تبيان ما يحتاجه الإنسان في سعيه وكدحه إلى الله تعالى وهذا ما يفهم من قوله: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) الانشقاق 6. وبناءً على ما ورد في الآية الكريمة وجب التمسك بالقواعد التي تبين النهج الصحيح للإنسان من خلال ذلك السعي ونبذ جميع الطرق والمسالك التي يجادل أصحابها في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وهذا ما يظهر جلياً في التزاحم اليقيني الذي اتخذه جمع من الناس دون أن تكون لهم حجة قاطعة في الاتجاهات التي اعتمدوها أو الاستحسانات التي ارتضوها، علماً أن هذا النهج الذي سنبينه من خلال البحث المخصص لهذا المقال لا يمكن أن يلتقي مع المعارف الكلية التي أشرنا إليها فضلاً عن الأركان الإيمانية التي لا تتفق مع اعتقاداتهم الباطلة، وعند البحث في جذور تلك المسألة وكذا معرفة الدوافع التي ساعدت على انتشارها يظهر أن للقوى السلطوية الأثر الفاعل في كيفية ترسيخها لدى عامة الناس وإن كانت جذورها ضاربة في القدم ولهذا أصبح القول بها مترتباً على ما يتبناه الفقيه الذي لا ينازع في أقواله المستمدة سلفاً من الاتجاه السياسي الذي كان له الدور المباشر في غرس المفاهيم التي يحتاجها المتسلط وإن شئت فقل نظام الحكم بعد عصر التنزيل.

وبناءً على هذا أصبح كتاب الله تعالى أقرب إلى الموسوعة الفقهية التي تتقاذفها أيدي مجموعة من الحكام دون أن يخرج ذلك عن مرأى ومسمع الفقهاء حتى كاد الواقع المعاش أن لا يتقارب مع العقيدة بأي شكل من الأشكال، ومن هنا انتشرت سيادة الأفكار الهدامة وتحريف ما ورد في أصل الرسالة، حتى أخذ القول بالجبر دوراً واسعاً في الاتجاه العقائدي لدى شريحة كبيرة من الناس وهذا ما جعل العلماء الذين فتح الله تعالى لهم ما خفي عن مخالفيهم أن يقوموا بتصحيح المسار والظهور بنتائج إيجابية على الرغم من الرفض القاطع الذي اتبعه الجانب المخالف، ولذلك كانت الآراء السائدة لا تخرج عن تأثير المفهوم العام الذي يعتقد أصحابه من أن الإنسان لا يمكن أن يختار أفعاله من دون الباعث الحقيقي وهو الله تعالى، علماً أن هناك ما يقابل هذا الاتجاه وهو القول بالتفويض وملاكه أن الإنسان هو الذي يخلق فعله من غير أن يكون لله تعالى أثر في ذلك وهذا ما يقطع الصلة بين الخالق والمخلوق.

وبناءً على هذا التقسيم يظهر أن كل فريق يظن أنه صاحب الحق فيما يذهب إليه، والحقيقة أن الأفعال لا يمكن ان يستقل بها الإنسان وكذا لا يمكن نسبتها إلى الله تعالى وإلا بطل الثواب والعقاب. فإن قيل: ما الحل إذن؟ أقول: الحل الأمثل أن نأخذ بقاعدة الأمر بين الأمرين، حتى لا نلقي بأخطاء الناس على عاتق النص القرآني إذا ما فسر بالوجه الصحيح دون أن يكون لكلا الفريقين عذر في عدم تفهم الأمر الذي يمكن أن نقول إنه يتعلق بالإنسان دون أن يخرج ذلك التعلق عن مشيئة الله تعالى، وخير مثال على ذلك قوله تعالى: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين***ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم) التوبة 14-15. هذا ما لدينا وللمفسرين في الآيتين آراء:

الرأي الأول: قال الفخر الرازي في التفسير الكبير: احتج أصحابنا على قولهم بأن فعل العبد مخلوق لله تعالى بقوله: (يعذبهم الله بأيديكم) فإن المراد من هذا التعذيب القتل والأسر وظاهر النص يدل على أن ذلك القتل والأسر فعل الله، إلا أنه تعالى يدخله في الوجود على أيدي العباد وهو صريح قولنا ومذهبنا، أجاب الجبائي عنه فقال: لو جاز أن يقال إنه تعالى يعذب الكفار بأيدي المؤمنين ولجاز أن يقال إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين ويكذب أنبياءه على ألسنة الكفار ويلعن المؤمنين على ألسنتهم، لأنه تعالى خالق لذلك، فلما لم يجز ذلك عند المجبرة علم أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد وإنما نسب ما ذكرناه إلى نفسه على سبيل التوسع من حيث إنه حصل بأمره وألطافه، كما يضيف جميع الطاعات إليه بهذا التفسير، وأجاب أصحابنا عنه فقالوا: أما الذي التزمتموه علينا فالأمر كذلك إلا أنا لا نقوله باللسان، كما أنا نعلم أنه تعالى هو الخالق لجميع الأجسام ثم إنا لا نقول يا خالق.. ويا مكون الخنافس والديدان فكذا ههنا وأيضاً أنا توافقنا على أن الزنا واللواط وسائر القبائح إنما حصلت بأقدار الله تعالى وتيسيره ثم لا يجوز أن يقال يا مسهل الزنا واللواط ويا دافع الموانع عنها، فكذا ههنا أما قوله وذلك لا يجوز إلا لدليل قاهر والدليل القاهر من جانبنا ههنا فإن الفعل لا يصدر إلا عند الداعية الحاصلة وحصول تلك الداعية ليس إلا من الله تعالى.

الرأي الثاني: يقول الطباطبائي في الميزان: إن الذي تنتجه الأبحاث العقلية أن الحوادث كما أن لها نسبة إلى أسبابها القريبة المتصلة بها كذلك لها نسبة إلى أسبابها القصوى التي هي أسباب لهذه الأسباب فالحوادث أفعال لها في عين أنها من أفعال أسبابها القريبة المباشرة للعمل فإن الفعل كالحركة مثلاً يتوقف على محركه نظير العجلة المحركة للأخرى المحركة لثالثة وليست من الحركة بالعرض فللفعل نسبة إلى فاعله وله انتساب إلى فاعل فاعله بعين هذه النسبة التي إلى فاعله لا بنسبة أخرى منفصلة عنها مستقلة بنفسها غير أنه إذا انتسب إلى فاعل الفاعل عاد الفعل القريب بمنزلة الآلة بالنسبة إلى فاعل الفاعل أي واسطة محضة لا استقلال لها في العمل بمعنى أنه لا يستغني في تأثيره عن فاعل الفاعل إذا فرض عدمه يساوق انعدام الفاعل وانعدام أثره وليس من شرط الواسطة أن تكون غير ذات شعور بفعلها أو غير مختارة فإن الشعور الذي يؤثر به الفاعل الشاعر في فعله لم يوجده هو لنفسه وإنما أوجده فيه فاعله الذي أوجد الفاعل وشعوره وكذلك الاختيار الذي ظهر به فاعله فافهم ذلك فلا تزل قدم بعد ثبوتها.

ويضيف في الميزان: وعلى هذه الحقيقة يجري الناس بحسب فهمهم الغريزي فينسبون الفعل إلى السبب البعيد كما ينسبونه إلى السبب القريب المباشر بما أنه أثر مترشح منه، يقال بنى فلان داراً وحفر بئراً وإنما باشر ذلك البناء والحفار ويقال جلد الأمير فلاناً وقتل فلاناً وأسر فلاناً وحارب قوماً كذا وإنما باشر الجلد جلاده والقتل سيافه والأسر جلاوزته والمحاربة جنده، ويقال أحرق فلان ثوب فلان وإنما أحرقته النار وشفى فلان مريضاً كذا وإنما شفاه الدواء الذي ناوله وأمره بشربه واستعماله، ففي جميع ذلك يعتبر أمر الآمر أو توسل المتوسل تأثيراً منه في الفاعل القريب ثم ينسب الفعل المنسوب إلى الفاعل القريب إلى الفاعل البعيد وليس أصل النسبة إلا نسبة حقيقية من غير مجاز قطعاً. ومن قال من علماء الأدب وغيرهم إن ذلك كله من المجاز في الكلمة لصحة سلب الفعل عن الفاعل البعيد فإن مالك البناء لم يضع لبنة وإنما هو شأن البناء الذي باشر العمل إنما أراد الفعل بخصوصية صدوره عن الفعل المباشر ومن المسلم أن المباشرة إنما هي شأن الفاعل القريب، ولا كلام لنا فيه وإنما الكلام فيما يتصور له من الوجود المتوقف إلى فاعل موجد.

ويضيف الطباطبائي: وهذا المعنى كما يقوم بالفاعل المباشر كذلك يقوم بعين هذا القيام بفاعل الفاعل، واعتبار هذه النكتة هو الذي أوجب لهم أن يميزوا بين الأعمال وينسبوا بعضها إلى الفاعل القريب والبعيد معاً ولا ينسبوا بعضها إلا إلى الفاعل القريب المباشر للعمل، فما كان منها يكشف بمفهومه عن خصوصيات المباشرة والاتصال بالعمل كالأكل بمعنى الالتقام والبلع والشرب بمعنى المص والتجرع والقعود بمعنى الجلوس، ونحو ذلك لم ينسب إلا إلى الفاعل المباشر فإذا أمر السيد خادمه أن يأكل غذاءً كذا ويشرب شراباً كذا ويقعد على كرسي كذا، قيل أكل الخادم وشرب وقعد، ولا يقال أكله سيده وشربه وقعد عليه وإنما يقال تصرف في كذا إذا استعمل كذا أو أنفق كذا ونحو ذلك لما ذكرناه. ومن الأعمال التي لا تعتبر فيها خصوصيات المباشرة والحركات المادية التي تقوم بالفاعل المباشر للحركة كالقتل والأسر والإحياء والإماتة والإعطاء والإحسان والإكرام ونظائر ذلك فإنها تنسب إلى الفاعل القريب والبعيد على السوية بل ربما كانت نسبتها إلى الفاعل البعيد أقوى منها إلى الفاعل القريب، كما إذا كان الفاعل البعيد أقوى وجوداً وأشد سلطة وإحاطة.

فهذا ما ينتجه البحث العقلي ويجري عليه الإنسان بفهمه الغريزي، والقرآن الكريم يصدق ذلك أوضح تصديق كقوله تعالى: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين***ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم) التوبة 14-15. حيث نسب التعذيب الذي تباشره أيدي المؤمنين إلى نفسه، بجعل أيديهم بمنزلة الآلة.

انتهى موضع الحاجة من كلام الطباطبائي وفي البحث بقية من أرادها فليراجع تفسير الميزان.