تاريخ اليهود القرائين

قبل ان نتحدث عن كتابه الجديد الاكثر اثارة واهمية، ينبغي ان نشير الى ان الصحافة والمحافل العلمية البريطانية لا تزال تتحدث عن اهمية التكريم الذي حظي به الباحث العراقي المغترب الدكتور جعفر هادي حسن، العام الماضي، من قبل مؤسسة (ميدل ايست مونيتر) البريطانية لدراساته المميزة في مجال الجماعات والطوائف والفرق اليهودية، حيث اجمعت على رصانة المنهج، وسعة الاحاطة بالخلفيات التي طبعت منظورات الباحث الموزعة على عدد من الكتب مثل "فرقة الدونمة بين اليهودية والإسلام" و"فرقة القرّائين اليهود" و"اليهود الحسيديم" و"قضايا وشخصيات يهودية" وفي خلفية هذا الارث البحثي تقع حقيقة ان الدكتور حسن عالِم لغوي متخصص باللغات السامية (عبرية، آرامية، سريانية، فينيقية) إذ حصل على شهادة البكالوريوس والماجستير من جامعة بغداد والماجستير والدكتوراه من جامعة مانشسر.

وبهذا الصدد اكد عباس شبلاق، مدير مركز اللاجئين الفلسطينيين والشتات برام الله بأن الدكتور جعفر هادي حسن "واحد من قلّة من العلماء العرب الذين درسوا بعمق مختلف المدارس الدينية اليهودية وكيف تطورت، مع احتفاظه الدائم بالمهنية والانفتاح والتسامح" أما هو فيقول بانه كان محظوظاً حينما تتلمذ على أيدي خيرة الأساتذة العراقيين والبريطانيين الذين استقى منهم هذه التقنيات والمناهج العلمية الحديثة التي اعانته دائماً في كتابة أبحاثه.
وعُرف الباحث المغترب كمحاضر واسع المعارف في اختصاصه، وكان هذا الاستنتاج قد روّج على نطاق واسع بعد محاضرة له في مجلس العموم البريطاني وعندما اصدر الطبعة الاولى "المتعجلة والمليئة بالاخطاء الطباعية والفنية" من كتابه "تاريخ اليهود القرائين منذ ظهورهم حتى العصر الحاضر" في العام 1989 وتصور ان احدا لن يلتفت اليه، لكنه سرعان ما تلقى رسالة طيبة ومنصفة من رئيس قسم الدراسات العبرية واليهودية في جامعة ستراسبورغ العالِم في هذا الاختصاص "أف، فانتون" شجعته على أن يعيد طباعة الكتاب وتضمنت ايضا القول: أنه جاء إلى لندن في زيارة واقتنى نسخة من هذا الكتاب ووجده ممتعا، فقرأه بعناية فائقة فوجد "أنّ الكاتب متبحر في الموضوع ومتبع لمنهج متوازن في البحث".
الطبعة الثانية المزيّدة من كتاب الدكتور جعفر هادي حسن صدرت في بيروت قبل بضعة شهور في 430 صفحة ويعد أول كتاب باللغة العربية عن اليهود القرائين الذين يعودون الى حركة دينية انفصلت عن اليهودية الأم في وقت مبكر من تاريخ اليهودية، وكان انفصالها في القرن الثاني الهجري- الثامن الميلادي، عندما كان مركز اليهودية الرئيس في العراق، واستمرت في الوجود نشيطة وفاعلة في الحياة اليهودية حتى الآن، وكان الرائد في انفصال هذه الحركة عن اليهودية الأم شخصية يهودية معروفة وهو عنان بن داوود الذي يرجع نسبه كما ذكر المؤرخون، إلى داوود النبي. وكان الحاخام قبل انفصاله مرشحا لرئاسة اليهود، ولكن الحاخامين غيروا رأيهم بسبب آرائه ورشح مكانه أخوه حنانيا، وكان ظهوره في بغداد أيام أبي جعفر المنصور العباسي.
والسبب الرئيس لانشقاق الحركة هو رفضها للتلمود (الذي يعد المصدر الثاني للشريعة اليهودية عند اليهود عامة، بعد التوراة حتى أنهم يسمونه الشريعة الشفوية) وكان من رأي عنان أن التوراة هي وحدها المصدر الرئيس للشريعة اليهودية دون غيرها، لأن التلمود هو من تأليف الحاخامين، وهم عرضة للخطأ. وهذه الحركة ليس فقط لاتعترف بالتلمود الذي اعتبرته كتابا كبقية الكتب اليهودية، ألفه الحاخامون وليس منزّلا، لأنه يحتوي على الكثير من الأخطاء والتناقضات كما يقولون، بل حتى الأدبيات اليهودية الأخرى. وقد كتب علماء الحركة الكثير في نقده ورفضه والاستخفاف به وبيان عيوبه، وعرضوا بعض الآراء التي تناقض التوراة والشريعة اليهودية مثل قضية التجسيم بالنسبة إلى الرب، إذ يرفض القراؤون رفضا قاطعا أن الرب مجسم وله أعضاء تشبه اعضاء الإنسان. كما كتبوا أيضا نقدا لبعض حاخامي اليهودية الكبار مثل الجاءون سعديا الفيومي، حيث ألف القراؤون ضد هذا الحاخام خاصة عشرات الكتب، وصل لنا أكثرها.
وكان سعديا من أشد أعداء القرائين، وكتب الكثير ضد الحركة، وأهم نقد كتبه باللغة العربية هو كتابه ضد مؤسس الحركة وعنوانه "الرد على عنان" ويحاول فيه أن يفند آراء عنان، رأيا رأيا، ولكنه أيضا يتهجم عليه بشكل قاس يتجاوز أدب الجدال والحوار وأصول المناظر، كما اتهم القراؤون الحاخامين بالتسلط على الفقراء واستنزاف أموالهم، ومن الاتهامات للحاخامين أنهم يستعملون السحر حيث ألفوا فيه بعض الكتب، وعلى الرغم من محاربة المؤسسة اليهودية الرسمية للحركة خلال أكثر من ألف سنة وحتى العصر الحاضر، حيث تصدر فتاوى ضدها بين فترة وأخرى ومنذ قرون، وتفتي ببطلانها، فإنها لا تزال اليوم إحدى الحركات اليهودية المهمة ولها أتباع كثيرون، يعيش الغالبية العظمى منهم في إسرائيل.
وتختلف هذه الحركة عن غيرها من الحركات اليهودية الدينية الأخرى، مثل حركة اليهودية الإصلاحية وحركة اليهودية المحافظة، في أنها تسبقهما زمنا بقرون وتختلف عنهما في طبيعتها، ومما تختلف به عنهما أنها تفاعلت مع الثقافة الإسلامية وتأثرت بها كثيرا في مجالات كثيرة، في الفكر والفقه وأصوله واللغة والممارسات الدينية، كما كتب علماؤها المئات من الكتب العلمية والأدبية باللغة العربية. ومن العلوم التي تأثروا بها،علم الكلام الذي اهتموا به وناقشوا مسائله وكتبوا فيه أكثر من كتاب وهو فكر معتزلي بامتياز، وحتى صلاتهم تأثرت بالصلاة عند المسلمين فهم يسجدون ويركعون بل ويقنتون أيضا. وأصول الفقه عندهم هي تماما كما عند المسلمين مثل الكتاب والرواية والقياس والإجماع، بل ألفوا في علم القراءات التوراتية، تأثرا بما ألفه العلماء المسلمون في القراءات القرآنية، واستعملوا مصطلحات إسلامية في فقههم مثل الإمام والقبلة والقرآن، وعبارات اسلامية مثل عليه السلام ورضي الله عنه.
وهم اتخذوا أسماء وكنى عربية لأنفسهم مثل أبي سعيد وأبي الحسن وأبي السري وأبي الفرج. وقد كان لهذا التأثر جانب إيجابي لحركتهم، حيث تمكنوا من الوقوف على أرضية صلبة وقوية في الدفاع عن أفكارهم، أمام هجوم اليهودية الأم ونقدها للحركة وقد ضم هذه الموضوعات فصلان كبيران عن الثقافة الإسلامية، فيها تفصيلات غير ما ذكر من أمثلة أعلاه.
ويتحدث مؤلف الكتاب بتفصيل وفي أكثر من فصل، عن المراكز التي عاش فيها القراؤون خلال تاريخ الحركة الطويل، كفلسطين حيث أنشأوا مركزا علميا كانت لغة التدريس فيه العربية وقد استمر إلى مئتي سنة، وتخرج منه علماؤهم الكبار.
وكمصر(حيث أصبح لهم دور مهم في سياسة الدولة في فترة الحكم الفاطمي) وبيزنطة وليتوانيا وروسيا وبولندا وشبه جزيرة القرم وغيرها من المراكز. ويفصل المؤلف الحديث عن دور هذه المراكز ونشاطها في إثراء الحركة وتطورها، كما يذكر أهم علمائها والكتب المهمة التي ألفوها، حيث يعرض مضامينها ويناقشها ويبدي ملاحظاته عليها ورأيه فيها. وكان بعض القرائين شعراء أيضا، وترجم المؤلف بعض أشعارهم. وخصص المؤلف فصلا في الكتاب عن موقف النازية أثناء الحرب العالمية الثانية من القرائين، ثم يعرج على وجودهم في اسرائيل اليوم ونشاطهم فيها، وعلاقتهم بالدولة والمؤسسة الدينية واليهود الآخرين من سكان إسرائيل.
إضافة إلى فصول أخرى تتعلق بالاختلافات الفقهية، وتاريخ الصراع بينهم وبين اليهودية الأم وغيرهما من الفصول.
وعندما أكتشفت وثائق جنيزة القاهرة في نهاية القرن التاسع عشر، في أحد الكنس وعثر فيها على أكثر من مئتين وخمسين ألف وثيقة يهودية وغير يهودية بلغات مختلفة، كان بينها المئات إن لم تكن الآلاف تعود لهذه الحركة، كان أكثرها مكتوبا بلغة عربية، بعضها بحروف عبرية ولا يزال الباحثون يكتشفون من هذه الوثائق الكثير التي خلفتها الحركة، يحققونها وينشرونها بين فترة وأخرى. ومع أن المؤسسة الدينية لا تعترف بها فإن إسرائيل هجرت أتباعها عند ظهورها، وهم يسكنون اليوم في عدد من المدن الإسرائيلية ، مثل بئر السبع ومصلياح وغيرهما ،وأهم مدنهم هي الرملة حيث يوجد مركزهم الرئيس فيها.
ولا يزال القراؤون الذين هم من أصل مصري من الجيل الأول يتكلمون اللغة العربية ويتبنون العادات المصرية والطعام المصري.
لكنهم كما قال أحد زعمائهم من هؤلاء هم يعانون اليوم من التفرقة ضدهم في إسرائيل، فأبناؤهم كما قال لايظهرون أنفسهم على أنهم من القرائين عندما يكونون في الجيش
وغير ذلك من أمور تجعلهم يعتقدون أنهم من الدرجة الثانية، ولذلك هاجر بعضهم منها حيث توجد اليوم جالية كبيرة منهم في الولايات المتحدة الأميركية