تفاؤل.. الى حد ما

مع انه لا يمكن بيع السمك قبل اصطياده واخراجه من النهر، لكن غريزة الامل تسمح احيانا المراهنة على تحقيق امر انطلاقا من مؤشرات بدائية له، او لما يبدو انها مؤشرات.
سأجازف بالقول ان الغبار الخانق، المسموم، التخريبي، الذي اطلقه داعش انتهى الى خلق نقيضه: خصومة مجتمعية مع الارهاب، تتبلور على شكل”امل” ينشق من افئدة الملايين ويتدفق، وإن بمكابدة، في تعاطٍ بليغ مع الحياة اليومية، وتحدٍ (احيانا انفعالي) للمخاطر الامنية، وحرص على اشاعة الاسترخاء في نقاط تماس كانت مرشحة للتوتر، ويظهر هذا الامل العفوي في نأي الشارع عن شعارات التجييش التي كانت تطلق غداة كل هزة امنية.
نسائم التفاؤل هذه، قد تكون ممارسة غريزية فارّة من احتباس شديد في الحياة بين السواتر الكونكريتية، أو هي رجاء يائس مكبوت ناتج عن مكابدات العيش وازمات الخدمات وعواصف الصراعات السياسية والطائفية، وربما لا تعدو عن كونها امنية مجانية تلقى على قارعة الطريق، أو جرعة من التهدئة الخادعة يداري الناس بها دوامة الاخطار والتفجيرات وليالي الرعب والجثث والموت، وغارات الكوابيس والضغوط.
والتفاؤل، في كل الاحوال، غير قابل للتوظيف، لا للحكومة او لاية مؤسسة سياسية، وليس هو حصيلة لمنة جهة او مرجعية او تكية، كما انه ليس معادلة رياضية تنطلق من افتراض استُهلك كثيرا عن “الصحوة الانقلابية” التي تنطّ من شرارة اليأس حين يستنفد الشعب صبره وامكانيات التغيير السلمي للواقع.. انه الامل في تعريفاته القاموسية فان “ثورة الامل” قد تنصرف، كما يقول “اريك فروم” الى مدارات ابعد من دائرة علم الثورات الاجتماعية.. الى السايكولوجيا، مثلا، ويشاء “الدوس هاكسلي” ان يجعل في كتابه (افضل العوالم) من الامل قوة سحرية لصناعة التغيير.
التفاؤل الذي نتحدث عنه كنسائم على سطح المشهد الاجتماعي-السياسي الجديد هو، باختصار، احساس نبيل وسري باهمية مشروع الحياة الذي تتشبث به الملايين ورفض الاستسلام للتهديد والقتل العشوائي، ومواجهة سلمية وانسانية لسطوة العنف ومؤسساته، وهو تعريف لتفاعل الذات الشعبية المدنية مع ضوء ساطع، هذه المرة، في النفق الطويل الذي حشرت فيه الشعب على يد الرطانات المسلحة المختلفة، وهو باب قد يفضي الى الفعل الشعبي البناء والتغييري بعد سنوات ثقيلة اوصدت فيها جميع الابواب، وخوضت طوالها جميع المشاريع المعلنة في الوحل وسوء السمعة، وتصدعت خلالها صورة الكيفيات الشللية والفئوية والطائفية.
هذا على الرغم من اننا فقدنا موهبة صناعة التفاؤل منذ زمن طويل.


“الانسان الذي يمكنه إتقان الصبر يمكنه إتقان أي شيء آخر”.
اندرو كارنجي- صناعي امريكي