إشكالية الطائفية في الوطن العربي

 

ليس هناك من شك من إن النزعة الطائفية ما هي إلا نتاج لغياب أفق الديمقراطية وفشل التحديث السياسي على نطاق الدولة والمجتمع, ونتيجة لإفراغ الديمقراطية من محتواها الأصلي ومخزونها الحضاري, ورّثاثة الحداثة وضحالتها, كانت الطائفية كإشكالية حاضرة وبقوة في المخيال العربي والإسلامي, بمعنى إنها نتاج للحضور المميز للدكتاتورية والاستبداد الديني والتواجد الثقرّطي في المجال السياسي العربي, لأن الطائفية ليس ثمرة جهد عربي وإنما ثمرة غياب الجهد العربي الإسلامي الحقيقي.

وأنْ الطائفية هي ليست نتيجة إسلامية بالمعنى الإسلامي الكلاسيكي العبادي, بقدر ما هي صنيعة عصر انتشار البدع والخرافات وتفشي الخزعبلات وتنامي جور المؤسسة الدينية المشتغلة في الحقل السياسي, ونتاج التوظيف الديني في الحقل السياسي, بمعنى إنها ليست نتيجة الإسلام الأصولي الكلاسيكي, _ إسلام الرسوّل والخلفاء الراشدين _, وإنما هي ثمرة تصرف إسلام الملك العضوض (السياسي) _ الذي أبتدعه بني أميّة _, وما تلاه من حروب وفتنة وصراعات دينية لم تنته حتى اللحظة, لكنها تعاود بين فينة وأخرى, وهو نفس ما ذهب إلى تبريره المفكر جورج طرابيشي في وصفه للطائفية على اعتبار إن الطائفية في الإسلام ليست حدثاً طارئاً, فهي _ برآيه_ قديمة قدم الإسلام, لكنهُ لا يُحْمل الدين ذاته على المسؤولية, ليربطها بالإسلام التاريخي, التي تعتبر من صُلب ثوابته وخصوصياته التطورية, الإسلام الذي ماشا التحْقيب الزمني والسيرورة التاريخية للإسلام, بمعنى إن الطائفية هي أحد ثوابت الإسلام التاريخي _ حصراً _ الأكثر استمرارية في تاريخانية الإسلام, وإن خمدت جذورها أو أتقدت تبعاً لتقلب موازين القوى المُمسكة بمقاليد السلطة والدولة, فهي قد تتوافق مع الثيوقراطية التي ولدت من خاصرة الإسلام السياسي والتاريخي في مرحلة لاحقة من فترات الإسلام بعد تحويل الدين فيه إلى وسيلة تجلب غايات رخيصة, وهذا يحمل معانٍ منها إن الطائفية هي حتمية الزّج الديني في السياسة _ وفق شروط الإسلام السياسي _ خارج تصور الإسلام الرسولي, أي بمعنى انه مزج وفقاً لاجتهادات رجال الدين المُسيسين (المتأسلمين), أو اجتهادات رجال السياسة المتدينين, والتي غالباً ما تتسم الطائفية بإنها "هي مذهب ديني يتصف بسياسات انشقاقية" انشطارية تمارس عملية انفجارات مزدوجة ومستمرة في المجتمع العربي الإسلامي.

وهو ما يدلل بالحتمية المطلقة بإن الطائفية هي أحدى تجليات الثيوقراطية الدينو _ سياسية, وتمخضت من خلالها, لكن هذا لا يعن إن العلمانية ليست طائفية أو تمثل قمة الاعتدال على طول المسيرة, فهي _ أي العلمانية _ هي الأخرى تمارس نوعاً من الطائفية والقضية نسبية بين الثقرطة والعلمْنة, وليست مطلقة بحال, .. لكن العلمانية تمارس الطائفية بأقل حدة وتطرف نتيجة عزلها للموروث الديني في الحقل السياسي, وهي ترفع شعار "المدّننْة" في وجه "الثقرطة" وكمقابل ند لها, وإن كان يحمل نوع من السذاجة قياسا بالتطبيق العملي للشعار, وإن كانت الجماعات اللا دينية (العلمانية) تقول كلاماً عسلاً, وتطبيق واقعاً منمقاً, فالطائفية ليست حكر على حركة أو طائفة أو حزب أو دين, وإنما هي سياسة يمارسها ابناء الأحزاب والطوائف بما يتسق مع طموحاتهم ورغباتهم, وهي ثقافة طوائف متعصبة ومنشقة على نفسها وعلى دينها, وليست ثقافة أمم وشعوب متجانسة, فغياب الوحدة والتجانس والتماسك الاجتماعي بسبب الثيوقراطية هو الذي أفضى إلى النزوع إلى خيار الطائفية بكل تجلياته وتبعاته, وهو ذاته الذي فتح شهية الحديث المعسول عن العلمانية.