فاطلع فرآه في سواء الجحيم

 

عند الابتعاد قليلاً عن الأحكام الشرعية التي وردت في القرآن الكريم، وكذا ما يتصل بالأحداث التي تعرض لها الأنبياء، إضافة إلى ما يستجد من أخبار طارئة لا تختلف مجريات مصاديقها مع ما يألفه الإنسان أو ما يشاهده في مراحل حياته، وكذا ما يحصل عليه من أمور مكتسبة لا تجانب المعتقد الذي لا يحق له إبطاله أو الانتقال منه إلى تصورات بنيت على الأوهام، أو فرضت عليه بفعل فاعل، فههنا "أي عند الابتعاد عن هذه العلائق التلازمية كما ذكرت" نجد أن جميع متعلقاتها إذا ظهرت للمتلقي لا تخرجه عن الإيمان اليقيني، الذي لا يكاد يفارق الممارسات الفعلية التي تكفّل الدليل في بيان أسبابها وما تؤول إليه نتائجها حتى أصبحت من المسلمات أو الإرث الاجتماعي الذي لا تفرض وسائل معرفة إيجاده على العقل، قبل أن تكون في منأى عن الاستعدادات العملية، التي لا تتفق مع الأدلة اليقينية لدى عامة الناس.

ومن الجهة المقابلة لهذا الأمر نرى أن القرآن الكريم يشير إلى نوع من الدلالات المنطقية التي لا يجد الإنسان ما يتطابق مع معطياتها أو ما يتفرع منها ويضاف إلى الواقع المعاش الذي يتقارب مع الصورة الحقيقية التي يجب أن ترتكز عليها تلك المعطيات، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكر في القرآن الكريم من الكرامات والمعجزات التي يصعب تصديقها إذا وردت عن طريق لا يألفه الناس، كما هو الحال في ولادة عيسى من دون أب، أو إبطال خاصية النار لإبراهيم، أو من قبيل الأفعال التي صدرت جراء الآيات التي جاء بها موسى عن طريق العصا، وكذا ما كان من تعليم آل داود لمنطق الطير، وما كان من قصة النملة مع سليمان، أو الهدهد الذي جاء بنبأ ملكة سبأ، وصولا إلى الأعمال التي قام بها العبد الصالح من قتل الغلام وخرق السفينة وبناء الجدار.

وكما بينا في معرض حديثنا لا يمكن الركون إلى هذه الأحداث وذكر تفرعاتها بمجرد أن تلقى إلى الآذان هكذا لو لا تصديقها من قبل المنهج المنزل بحق أولاً مع تبيان أسرار ذلك المنهج الإعجازية التي تقف بين عدم التصديق وبين إظهار الحقائق ثانياً، مع التسليم من أن لا يكون هناك تناقضاً في تلقي الأحداث وبناء على هذا فقد استعمل القرآن الكريم الطريق الأمثل لفرض صحة هذه الأحداث، وإظهار حقائقها دون تكلف أو عناء ولهذا عمد إلى عرض الأمثال التي تتطابق مع الواقع المعاش والمشاهد لدى الناس، أما ما يكون بعيداً عن إيجاد الحالات التي تتناسب مع العمق الذي لا يمكن تمثيله في الأرض، فههنا يُلزم الإنسان بتصديقه قياساً إلى ما يظهر من خلال المتطابقات العملية التي بينا بعضاً منها، وإن كانت الأمثلة لا تستقيم في إيصال ما يرتبط بالأحداث إلى ما يتوافق مع المعطيات التي تكون حاضرة أمام مرأى الناس في جميع المراحل.

من هنا يمكن أن نفهم مدى الفرق بين هذه النشأة والنشأة الأخرى، إذا ما أردنا قياس الآخرة على الأولى بطريقة توجب ربط الأحداث بعضها مع بعض، لأجل أن نرى الفرق في الأبعاد الظاهرة بين التصديق أو عدمه وكذا نوعية الاختلاف بين النشأتين. فإن قيل: ماهي الأسس التي يبنى عليها الترابط بين الحياة الدنيا وبين الآخرة قياساً إلى ما أشرت إليه من طرق التفاعل التي وردت في البحث؟ أقول: هناك عدة طرق بينها الحق سبحانه، يظهر فيها الترابط بين النشأتين، مع عدم الأخذ باتباع الأسباب التي لا يمكن الركون إليها وإن انتقلت روابطها بين الناس، وأنت خبير من أن ذلك لا يعطي المبرر لتصديقها، كما ذهب الكثير من المحققين إلى ادّعاء معرفة اللغة التي يتكلمها أهل الجنة أو طريقة التزاوج وهلم جراً، وكما ترى لا يوجد دليل على بيان نوع اللغة التي يتكلم بها الناس هناك، ولا يخفى على المتأمل من أن ذلك لا يمكن أن يؤخذ به قياساً إلى ما يتحقق من نقل الأخبار من جيل إلى آخر دون أن يوجه هذا المعنى إلى المداخلات الكلامية التي يحق لها أن تُظهر أسبابه على أتم وجه، علماً أن ليس في ذلك كثير فائدة، إلا ما تطرق إليه القرآن الكريم. فإن قيل: ما هي الفائدة من المتطابقات التي تطرق إليها القرآن الكريم إذا سلمنا بعدم معرفة نوع اللغة التي يتكلمها الناس في النشأة الأخرى؟ أقول: الفائدة من المتطابقات تكمن في الإرشاد المبطن للناس في هذه النشأة، كما بين الله تعالى ذلك في قوله: (إن المتقين في جنات وعيون***ادخلوها بسلام آمنين***ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين***لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين) الحجر 45-48.

وعند تأمل هذه الفائدة نجد أن تطبيقها في الأرض يكاد يكون مستحيلاً، وذلك لأن نزع الغل من الصدور والعيش بسلام دون نصب، لا نجد لهما أمثلة في هذه النشأة، ومن هنا كان لا بد من التسليم إلى أن هناك بعض المواقف لا تتناسب مع الترغيب والترهيب، وإن كانت لا تخلو من الإرشادات العامة التي تدعو إلى نزع الغل والعيش بسلام وإن كان ذلك بوجه.. فتأمل. وبالإضافة إلى ما تقدم نرى أن الله تعالى قد بين الصورة الثانية للأشياء التي حرمها في هذه النشأة حتى أصبحت كأنها من المسلمات التي لا يستغنى عنها في النشأة الأخرى، كما في قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماءٍ غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعائهم) القتال 15.

من هنا نعلم أن هذه الصفات الحسية التي بينها القرآن الكريم، لا يمكن أن يكون لها مثالاً في الأرض إضافة إلى عدم تغير طعم اللبن وكذا اللذة التي يجدها الإنسان في الخمر وهذا ما يفرق بينه وبين خمر الدنيا. فإن قيل: خمر الدنيا لا يخلو من اللذة التي وصفها القرآن الكريم؟ أقول هذا صحيح إلا أن خمر الدنيا يكون مصحوباً بالغول الذي انتفى من خمر الآخرة، كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله: (في جنات النعيم***على سرر متقابلين***يطاف عليهم بكأس من معين***بيضاء لذة للشاربين***لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون) الصافات 43-47.

وبناءً على ما مر نصل إلى المعرفة الإجمالية للمفاهيم التي يتكلم من خلالها الناس في النشأة الأخرى دون أن تكون هناك صعوبة في طريقة التحدث فيما بينهم، ولهذا نرى أن بعض أصحاب الجنة يتذكر ما حصل له في هذه النشأة مع الحفاظ على الجانب الروحي في الحديث، لأجل أن لا يخرج عن الاستقامة الإيمانية الملازمة لهم، ولهذا فقد بين الله تعالى تلك الحقائق بقوله: (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون***قال قائل منهم إني كان لي قرين***يقول أئنك لمن المصدقين***أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون***قال هل أنتم مطلعون***فاطلع فرآه في سواء الجحيم) الصافات 50-55.

هذا ما لدينا وللمفسرين في الآيات آراء أعرض لها:

الرأي الأول: قال الفخر الرازي في التفسير الكبير: اعلم أنه تعالى كما ذكر في أهل الجنة أنهم يتساءلون عند الاجتماع على شرب خمر الجنة فإن محادثة العقلاء بعضهم مع بعض على الشرب من الأمور اللذيذة ذكر تعالى في هذه الآية، أن أهل الجنة إذا اجتمعوا على الشرب وأخذوا في المكالمة والمساءلة، كان من جملة تلك الكلمات أنهم يتذكرون أنهم كان قد حصل لهم في الدنيا ما يوجب لهم الوقوع في عذاب الله، ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالسعادة الأبدية، والمقصود من ذكر هذه الأشياء أن أهل الجنة يتكامل سرورهم وبهجتهم.

أما قوله: (قال قائل منهم إني كان لي قرين) أي قال قائل: من أهل الجنة إني كان لي قرين في الدنيا (يقول أئنك لمن المصدقين) أي كان يوبخني على التصديق بالبعث والقيامة، ويقول تعجباً (أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون) أي لمحاسبون ومجازون، والمعنى أن ذلك القرين كان يقول هذه الكلمات على سبيل الاستنكار، ثم إن ذلك الرجل الذي هو من أهل الجنة يقول لجلسائه يدعوهم إلى كمال السرور بالاطلاع إلى النار لمشاهدة ذلك القرين ومخاطبته (هل أنتم مطلعون***فاطلع) والأقرب أنه تكلف أمراً اطلع معه لأنه لو كان مطلعاً بلا تكلف، لم يكن إلى اطلاعه حاجة، فلذلك قال بعضهم إنه ذهب إلى بعض أطراف الجنة فاطلع عندها إلى النار (فرآه في سواء الجحيم) أي في وسط الجحيم، قال له موبخاً (تالله إن كدت لتردين) أي لتهلكني بدعائك إياي إلى إنكار البعث والقيامة (ولولا نعمة ربي) بالإرشاد إلى الحق والعصمة عن الباطل (لكنت من المحضرين) في النار مثلك، ولمّا تمم ذلك الكلام مع الرجل الذي كان في الدنيا قريناً له وهو الآن من أهل النار، عاد إلى مخاطبة جلسائه الذين هم من أهل الجنة فقال: (أفما نحن بميتين).

الرأي الثاني: يقول الطباطبائي في الميزان: (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) ضمير الجمع لأهل الجنة من عباد الله المخلصين، وتساؤلهم سؤال بعضهم عن بعض وما جرى عليه. وقوله: (قال قائل منهم إني كان لي قرين) أي قال قائل من أهل الجنة المتسائلين إني كان لي قرين في الدنيا مصاحب يختص بي من الناس. كما يعطي السياق. وقيل المراد بالقرين من الشياطين، وفيه أن القرآن إنما يثبت قرناء الشياطين في المعرضين عن ذكر الله، والمخلصون في عصمة إلهية من قرين الشياطين وكذا من تأثير الشيطان فيهم، كما حكى عن إبليس استثناءهم من الإغواء (فبعزتك لأغوينهم أجمعين***إلا عبادك منهم المخلصين) ص 82-83. نعم ربما أمكن أن يتعرض لهم الشيطان من غير تأثير فيهم، لكنه غير أثر القرين. وقوله: (يقول أئنك لم المصدقين***أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون) ضمير (يقول) للقرين، ومفعول (المصدقين) البعث للجزاء وقد قام مقامه قوله (أئذا متنا) إلخ. والمدينون المجزيون.

والمعنى: كان يقول لي قريني مستبعداً منكراً (أئنك لمن المصدقين) للبعث أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً فتلاشت أبداننا وتغيرت صورها، أئنا لمجزيون بالإحياء والإعادة؟ فهذا مما لا ينبغي أن يصدق. وقوله: (قال هل أنتم مطلعون) ضمير قال للقائل المذكور قبلاً، والاطلاع الإشراف. والمعنى: ثم قال القائل المذكور مخاطباً لمحادثيه من أهل الجنة: هل أنتم مشرفون على النار حتى تروا قريني والحال التي هو فيها؟ وقوله: (فاطلع فرآه في سواء الجحيم) السواء الوسط، ومنه سواء الطريق أي وسطه. والمعنى: فأشرف القائل المذكور على النار فرآه أي قرينه في وسط الجحيم. وقوله: (قال تالله إن كدت لتردين) (إن) مخففة من الثقيلة، والإرداء السقوط من مكان عال كالشاهق، ويكنى به عن الهلاك. والمعنى: أقسم بالله إنك قربت أن تهلكني وتسقطني فيما سقطت فيه من الجحيم.

انتهى موضع الحاجة من كلامه.. ثم انتقل إلى ذكر رأي الطبرسي في الآيات إجمالاً، فمن أراد المزيد فليراجع تفسير الميزان.