إن المضي في تعزيز سياسات البحث العلمي و التطوير و التنمية في الدولة يقتضي التزاماً من الدولة بإنشاء أو إتاحة المجال لإنشاء مؤسسات بحثية و مراكز فكر و دراسات خاصة و حكومية، متخصصة للمساهمة في عملية التنمية و وضع الاستراتيجيات و السياسات العامة في مختلف المجالات، أو للمساهمة في متابعة تطبيق أو تقييم هذه السياسات و نتائجها. كما إن الشراكة ما بين القطاعين الحكومي و الخاص على صعيد البحث العلمي، من خلال مراكز الدراسات الخاصة,لانها تشكل ضرورة استراتيجية لتطوير البحث العلمي و ارتباطه بعملية التنمية الاقتصادية أو الاجتماعية أو التكنولوجية و غيرها. وقد بدأت المراكز البحثية في الوطن العربي في الخمسينيات من القرن المنصرم في مصر، مع تأسيس المركز القومي للبحوث عام 1956 في القاهرة، بالإضافة إلى مركز الأهرام للدراسات السياسية و الاستراتيجية الذي تأسس عام 1968. و هما يرتبطان بهيئات حكومية، و تأسس معهد البحوث و الدراسات العربية عام 1952، الذي كان يرتبط بالجامعة العربية، و الذي تحول لاحقاً إلى التركيز على الأداء التدريسي و التأهيل الجامعي على حساب العمل البحثي. في حين أنه على صعيد المراكز البحثية الخاصة فكان مركز دراسات الوحدة العربية الذي تأسس في بيروت، عام 1975 كمؤسسة بحثية غير ربحية أكاديمية أو علمية المنحى، حيث تركز نشاطها البحثي في مختلف القضايا السياسية و الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية التي تهم المجتمع العربي. ومنذ عقد الثمانينات و خاصة حقبة التسعينات حتى نهاية العقد الأول من القرن العشرين، عموماً انتشرت ظاهرة المراكز البحثية في جميع الدول العربية، و إن ارتبطت في بداياتها بالجامعات أو قطاعات حكومية، ثم انتشرت لاحقاً مراكز الأبحاث الخاصة في تخصصات متعددة سواء سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، و غيرها أو حتى المجالات البحثية التطبيقية الهندسية و التكنولوجية. و بشكل متأخر في المجالات الطبية. ان الصلة التي تربط بين مراكز الأبحاث والدراسات والمسؤولين وصناع القرار جعلت البعض يصفها بأنها نوادي نصف سياسية ونصف مراكز بحثية وأكاديمية. وهذه المؤسسات البحثية قد تسمى مراكز أو معاهد أو جمعيات أو مجالس أو وحدات . لكن هذه التسميات لا تؤثر على دورها الذي تلعبه في صنع القرار السياسي ورسم السياسات العامة ، طالما أن آليات عملها والهدف من تأسيسها واحد. إن مراكز الأبحاث تشكل صلة الوصل بين عالم البحث والدراسة وعالم السياسة ، فهي التي تمد الجسور بين المعرفة والسلطة. إن هذه الأدوار التي تلعبها مراكز الأبحاث والدراسات ، جعلت الحاجة إليها ماسّة بالنسبة لصناع القرار السياسي ، لرسم السياسة العامة للدولة ، والتخطيط الاستراتيجي الناجح ، بعيدا عن السطحية في التفكير أو الارتجال والاستعجال في القرارات ، بل لا يمكن بناء دولة متقدمة ما لم تكن مراكز الأبحاث والدراسات فيها متقدمة وفاعلة في عملها. النجاح ينبع من المقدمات الصحيحة التي تركز عليها المجتمعات والشعوب لتحقيق هذا النجاح ، وان القول بأن المسئوولين وصناع القرار في العراق مثلا يعملون اليوم على بناء دولة مدنية حديثة لها وزنها الإقليمي والدولي ، وبنائها المؤسسي الداخلي الفاعل ، يتطلب منهم ربط الأقوال بالأفعال من خلال تهيئة المقدمات الصحيحة لتحقيق هذا الهدف ، ومن ابرز هذه المقدمات هو تفعيل دور مراكز الأبحاث والدراسات في البلد ، والارتقاء بسياسة البحث والتطوير لتكون مناظرة لمثيلاتها في البلدان المتقدمة. عموماً، فرضت ظاهرة مراكز الأبحاث و الدراسات في العالم العربي وجودها مع اتساع انتشارها، وتنوع أنشطتها و زيادة حراكها العلمي، و تطور علاقتها مع صناع القرار في العديد من الدول العربية، إلا أنها ما زالت ظاهرة حديثة تحتاج إلى المزيد من الرعاية و الدعم. وعلى الصعيد العربي، فإن دور مراكز الدراسات و الأبحاث في العالم العربي تتقاطع في أجزاء منها مع بعض الأدوار المتعارف عليها لمراكز الأبحاث في العالم الغربي، و تختلف كلياً في أدوار أخرى. و مراكز الأبحاث الخاصة في العالم العربي لا تملك بشكل عام التأثير و الدور الذي تلعبه مراكز الأبحاث الخاصة الغربية في إعداد السياسات العامة أو لدى صناع القرار و في خدمة البحث العلمي. و لكن دور مراكز البحوث العربية يعيش حالة من التطور و النمو سواء من حيث الانتشار أو من حيث التأثير و الفعالية، و لكن ما زال الأمر في مراحل غير متقدمة. كما إن نمو ظاهرة الشراكة بين القطاع الخاص و القطاع الحكومي في الدول العربية يساهم أيضاً في تعزيز دور مراكز الدراسات و مؤسسات البحث العلمي. عموماً، و كما يشير تقرير المعرفة العربي إلى أن الشراكة بين الدولة و مراكز البحوث الخاصة كإحدى مؤسسات المجتمع المدني تعتبر عنصراً ضرورياً و تشكل رافعة أساسية لدور مراكز الأبحاث كإحدى مؤسسات القطاع الخاص. و تعتبر الشراكة بين الدولة و القطاع الخاص و المجتمع المدني ضرورية للارتقاء بالبحث العلمي و الإبداع في المجتمع. و يمكن لهذه الشراكة أن تأخذ نموذجين متقاطعين و متكاملين في آن معاً. و يتضمن الأول شراكة تفاعلية بين مؤسسات البحث و التطوير و مؤسسات التعليم العالي بحيث ترفد الجامعات و مؤسسات البحوث بالموارد البشرية، ثم تقود لإدماج نواتج البحوث في مناهجها التعليمية. أما النموذج الثاني فيتم عبر الشراكة التفاعلية بين قطاعات الخدمات و الإنتاج الاقتصادي و المجتمعي من جهة، و مؤسسات البحث و التطوير و مؤسسات التعليم العالي من جهة أخرى، و تعمل هذه الشراكة على تحديد الاحتياجات المجتمعية و أولويات البحوث، و ترجمة نواتجها إلى تطبيقات مفيدة. وقد أصبحت مراكز الأبحاث و الدراسات في معظم دول العالم بشكل عام، و أميركا و أوروبا بشكل خاص، تلعب دوراً أساسياً في إنتاج المعرفة و البحث العلمي و ما ينتج عنه من تطبيقات على صعيد توجيه و صياغة السياسة العامة للدول في مختلف مجالاتها الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و التعليمية و غيرها. بالإضافة إلى "عقلنة" و ترشيد القرار، و في كثير من الأحيان يتم اتخاذ القرار من المسؤولين و صناع القرار في قضايا معينة وفق ما تحدده نتائج دراسات المراكز البحثية. وإذا توفرت الإرادة لدى صناع القرار فإن المراكز البحثية قادرة إلى حد كبير على تحقيق الشراكة على صعيد صنع السياسات العامة، و إعداد استراتيجيات لحل المشكلات و الأزمات. " إن دور و تأثير مراكز الدراسات و الأبحاث في الدول الغربية عموماً، و أميركا خصوصاً، في عملية صنع القرار و رسم السياسات العامة يتفاوت بشكل كبير عن دورهم و تأثيرهم في دول العالم الثالث بما في ذلك العالم العربي, إن مراكز الأبحاث في أمريكا و الكثير من دول العالم المتقدم أصبحت جزء ثابت من البنية السياسية إلى المدى الذي أصبحت تُعتبر جزءاً عضوياً من عملية صنع السياسات في تلك الدول. كما إن هناك تباين بين دور مراكز الأبحاث المرتبطة في الجامعات و بين مراكز الأبحاث التي تسير وفق المنحى الأكاديمي العلمي في دراساتها و لكنها لا ترتبط بها. تقدم مراكز الأبحاث و الدراسات الخدمات الاستشارية للقطاع الحكومي و مؤسساته في العديد من القضايا التي تتطلب معرفة متخصصة و سرعة في الإنجاز أو القرار، حيث أن المراكز البحثية عادة تتوفر لها مجموعة أو شبكة من الخبراء داخل و خارج المراكز تكون على ارتباط وثيق بها، أو تملك المراكز سرعة في الوصول إليها أو السرعة في تكليفها بمهام بحثية أو استشارية معينة، كما تملك المراكز القدرة على توفير البيانات البحثية اللازمة لصناع القرار و المسؤولين عند الحاجة. و تحقيقاً لهذه الأهداف تأسست العديد من مراكز الأبحاث و الدراسات سواء مراكز بحثية حكومية أو جامعية أو خاصة. كما إن هذه المراكز لعبت "ولا تزال" دوراً مهماً، ليس فقط في تقديم العلم و التقنيات و التطبيقات الصناعية العديدة، و إنما أيضاً في تطوير نظم التعليم و السياسات الاقتصادية و الاجتماعية، و إلقاء الضوء على الطرق المثلى و الاستخدام الأفضل للموارد، و ذلك برفع الإنتاجية و تقليل الهدر منها، كما ساهمت تلك المراكز في لفت الأنظار لأحد المشكلات و المعضلات التي تواجهها عملية التنمية المحلية و الدولية، و رسم السياسات في التصدي لهذه المعضلات و معالجتها بأقل التكاليف، و في ضوء ذلك فإن دور و مراكز الأبحاث في المجتمعات المتقدمة لم يعد دوراً ثانوياً، و إنما دوراً أساسياً في رسم السياسات و ترشيد عملية اتخاذ القرار، و لذلك إن تأسيس المراكز البحثية و المستقلة يزيد من فعاليتها و دورها الإيجابي في هذين المجالين. و كما هو معروف، إن صناع القرار أو كبار المسؤولين ليس لديهم الوقت الكافي أو المعرفة المتخصصة في بعض المجالات أو القضايا موضع القرار أو رسم السياسات العامة سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الأمنية أو غيرها. لذلك فإن مراكز الأبحاث تقوم غالباً بإجراء الأعمال البحثية من أجلهم. أن مراكز الأبحاث أصبحت بشكل أساسي تقوم بالتفكير للحكومة, و مراكز الأبحاث تميل إلى أن تلعب دور الدمج أو التوفيق عند اختلاف أو تنازع البيروقراطية الحكومية حول إعداد سياسة معينة، أو عندما يكون هناك أطراف حكومية متعددة تشارك في إعداد سياسة في مجال ما، و تكون تلك الأطراف غير موحدة أو متوافقة في سياستها و مواقفها و رؤاها، فتقوم عادة مراكز الدراسات بدور الطرف التوفيقي بين تباين هذه المواقف و سياساتها أو رؤاها. كما إن لدى هذه المراكز البحثية القدرة على متابعة أحدث الدراسات و ترجمة المنشورات و المؤلفات التي تصدر عن المؤسسات و المراكز البحثية في الدول الأخرى خاصة الدول التي تكون موضع اهتمام خاص. و بمعنى آخر فإن مراكز الأبحاث تشكل مصدراً هاماً للمعلومات أو المعرفة للمسؤولين و القيادات العليا حول طروحات و آراء الآخرين لدول أخرى في القضايا أو الشؤون الدولية. أيضاً تلعب مراكز البحوث من خلال دراساتها دوراً هاماً في مجال "المستقبليات" أو المجال "الاستشرافي" خاصة مع تطور علم المستقبليات في العالم الغربي و التي أصبحت نتائج هذه الرؤى المستقبلية من المتطلبات الأساسية للتخطيط الاستراتيجي في الدول المتقدمة، و إن كان هذا النوع من الدراسات في العالم العربي ما يزال يقوم في الكثير منه وفق تنبؤات أو تقديرات أو انطباعات تتولد لدى الباحثين أكثر منه الاعتماد على أسس "علم المستقبليات" و الذي بدأ ينمو بشكل بطيء في عالمنا العربي.
|