كثيرا ما تفاجئنا الأيام بأن الصور النمطية الساذجة التي نصنعها لمن حولنا ، وبدون فكر مرتب ولا منهجية مميزة ، قد تكون صورا قاصرة ، تعبر عن وجه واحد من وجوه الحقيقة المتحيزة التي تكونت لدى بعض المستلبين من جهات بعينها للتطبيل لأطروحاتها اللإنسانية وتوجهاتها العدوانية ضد الغير ، كما هو الحال بالنسبة للصورة المشوهة التي تتفنن قناة الجزيرة في فبركتها عن مصر وإنسانها الأبي ، لا لشيء إلا لأنه رفض الظلم والاستبداد ، وثار في وجه الطغاة - الذين تحميهم "قطر" مالكة زمام أمر الجزيرة- ، ودفاعا عن حق المصريين في عيش كريم وحرية ومستقبل أفضل . تلك الصورة الغبية بما تحمل في طياتها من نظرة غبية ، وأحكام جائرة ، واتهامات ملفقة مصطنعة بغباء ودون وعى سياسى ، أو قدرة على تحليل الأحداث وربطها بمسبباتها ونتائجها .. "رب ضارة نافعة". وكما يقال "رب ضارة نافعة" ، ومن فضل الله على الشعب المصري ، أن جعل تلك التهم والأكاذيب ، سببا في استفاقة المصريين من غفلة انصياعهم لسطوة المتطرفين وأكاذيبهم المنسوبة إلى الدين ، والدين براء منها ، وحولتهم إلى شعب آخر ، يحمل فكرا مرتبا ومنهجية مميزة وموضوعية نادرة في التعامل مع قضاياه وهمومه ، الداخلية والخارجية ، وخلقت فيه حبا عظيم لوطنه وتعلقا غريبا به ، ما مكنه من وعي سياسي خارق ، تحول معه من مجتمع بسيط تنحصر جل اهتماماته في الجري وراء رغيف العيش وتأمين مرقد يضم قنينة غاز ، إلى مجتمع سياسي بامتياز ، يراقب ويناقش وينتقد ويربط الأحداث ويمنطقها ، الشيء الذي شكل رعبا كبيرا وإرهابا شديدا على سلطتهم الدينية واستبدادهم السياسي ، ومنعهم من الوقوع مرة اخرى ضحية تغييب العقول واللعب بالمشاعر التي مورست عليه من قبل مشاييخ التخلف والظلامية ، الذين فضحت الثورة جشعهم وتكالبهم على السلطة ، ما كما في مقولة عبد الرحمن الكواكبي : "إن أخوف ما يخافه المستبدون أن يعرف الإنسان حقيقة أن الحرية أفضل من الحياة ، وأن يعرف النفس وعزها ، والشرف وعظمته ، والحقوق وكيف تحفظ ، والظلم وكيف يرفع ، والإنسانية وما هى وظائفها .. حقيقة حال مصر وأحوال المصريين . صدقوني ، إني لا اجامل المصريين ، كما أني لست أعادي أي فريق منهم ، ولكن الحقيقة التي لمستها خلال مقامي الذي امتد بينهم لازيد من الشهر والنصف ، مكنني من أن أقف على حقيقة الأوضاع عندهم ، وخبرت أن حال مصر وأحوال المصريين ، في تطور مشهود نحو الأحسن ، رغم ما يبذله عشاق التطرف والإرهاب والمطبلين والمزمرين له ، من جهود خارقة ، وما يوظفوه أصحاب المصالح من أموال طائلة ، لنشر الفوضى واللاستقرار لتخويف وترويع المصريين ، بغية ثنيهم عن عيش حياتاتهم بشكل عادي ، إلا أن عمومهم –كما عاينت- يعيشونها بشكل طبيعي ، بل إن أكثريتهم تعيشها بالطول والعرض ، يلهون ويعبثون ويستمتعون كباقي الناس العاديين في كل بلدان العالم ، ولا أخفيكم أنني مند وصولي إلى القاهرة وأنا أتجول بكل حرية وأمان في كل ربوعها العجيبة ، وأتمتع بمعالمها الرائعة ، ومآثره العظيمة ، وأطلع على عادات أهلها وتقاليد ساكنتها المتنوعة ، وأتذوق نكهات أكلات مطابخها المتميزة ، والتي كثيرا ما كنت أخرج ليلة جمعة للعشاء في مطاعمها المتنوعة صحبة زوجتي وبعض الأصهار والأحباب ، كما يفعل أكثرية جل المصريين في نهاية كل أسبوع ، فلا نجد مقاعد فارغة بالعديد من المطاعم والكثير من المقاهي والملاهي المكتظة بالرواد ، لا فرق بين الراقية منها والمتراصة على ضفاف النيل "الكورنيش" -والتي لم يعد يسميها المصريون بـ "المقهى " خاصة الشباب منهم لارتدائها الحلل العصرية الحديثة التي اكتسبتها اسماً أكثر حداثة وهو "الكوفي شوب " - أو الشعبية العريقة والمتمركزة بقلب المدينة ما بين أحياء الحسين وقصر النيل كمقهى الفيشاوي وغيرها كثير ، والتي يوحي منظر الساهرين بها وأصوات الملاعق بها وهي تتراقص في اقداح الشاي ، بالأمن والأمان اللذان عادا في العديد من مناطق القاهرة وميادينها -بل والبلاد بكاملها - بعد أن طهرت قوات الأمني والجيش الكثير منها نسبيا من إرهاب المتطرفين وأحبطت مخططاتهم الإجرامية ، وأخلت الكثير من احيائها الشعبية من المعيقات والتعديات الصارخة والتنافر مع ملامح قاهرة أيام زمان ، والتي عمل المسؤولون الجدد جادين على إعادة ما طوي من جماليتها ، بتجديد الكثير من وحداتها السكنية وعماراتها الأثرية الشاهقة ، وحثوا الأهالي وشجعوا الفنانين على المشاركة في تجميل العديد من حيطان مبانيها الرخبة ، والحد من هروبها إلى قبح اللون الرمادى -الذي أصبح لا يعبر بلونه الرمادي الغامق ، إلا على هيمنة الفساد والاستبداد وإهمال أحوال البلاد والعباد - الذى أغرقها ، في غفلة من الزمان - أو في غفلة من المسؤولين ، وهو الأصح - فشوه منظرها الذي كان جميلة ومبهجة .. القاهرة وتسترجع إشراقها لقد أضحى من الأيسر على ازائر ملاحظة أن القاهرة بدأت تعود نسبيا إلى سابق إشراق ماضيها الجميل ، وتسترجع ما عاشته خلال العشرينيات من القرن الماضي من ازدهار ، بفضل مشاركة وتطوع ساكنتها التي أعطت بتلاحمها مع الجيش والشرطة أعظم المثل فى الولاء والانتماء للوطن ، وكانت الضامن للسلم الاجتماعي والدرع الواقي لها ولساكنتها من كل الكوارث والأزمات التي كان وراءها سفهاء هذا الزمان من أدعياء الدين الذين تسللوا وبكل قسوة بغلظة وغلو وبطش ، بفكرهم الفاسد والمغلوط ليجروا مصر ، إلى هاوية الفوضى والانقسام والفتنة ، حتى يتمكنوا من كسر إرادة المصريين ، واختراق أخلاقهم ، والمس بكرامتهم ، وهزم نخوة الشرف والكبرياء المعهودة فيهم ، حتى ينصاعوا صاغرين لرغبتهم الملحة في حكم الدنيا باسم الخلافة الاسلامية .. الغالبية الواعية لا تريد لمصر إلا الخير. ولتذكير فقط ، إني هنا لا امارس دور المحامي المدافع عن مصر والمصريين ،لأنهم أقدر مني على ذلك ، بل امارس دوري كأي إنسان يؤمن بالمقولة الشهيرة " الساكت عن الحق شيطان اخرس " وأنا ارفض أن أكون شيطانا ، لا أخرس ولا ناطق .. والحقيقة التي رصدتها بأمانة فأنطقتني ، هي أن هناك جماعة لا هم لها إلا الترويج لما يصور مصر والمصريين على أنهم غارقين في سواد البؤس والمشاكل والهموم والقضايا المؤلمة ، والعمل على التشكيك في كل إنجازات ، الرئاسة والحكومة الجديدين التي يعترضون عليها ، ويعادون كل من لا يرى مثلهم ، القمع والدكتاتورية في تسييرهما . وأيا كان ما تراه تلك الجماعات المتطرفة وأتباعها ومريدوها ، فإن ما لفت انتباهي خلال زيارتي الأخيرة والطويلة لهذا البلد العظيم ، واستجواب الكثير من مواطنيه ، هو أن الغالبية الواعية التي لم تتلوث بالفكر الإرهابي ، لا تريد لمصر إلا الخير ، ولا ترجو لها إلا الأمان والاستقرار ، ولا تتمنى لها إلا النهوض من كل الكبوات التي ألمَّت بها في مختلف المجالات ، ولا تحرص إلا على أن تسترد مصر وبسرعة جميع المواقع التي فقدتها خلال السنوات العجاف التي امتدت وطالت .. تحول مثير في مجال ثقافة احترام قانون السير. ومن الأدلة الصارخة على ذلك هو ذلك التحول المثير الذي عرفه المجتمع المصري في الكثير من الميادين وعلى رأسها وأخطرها على العموم ، ثقافة احترام قانون السير ، حيث أضحى من السهل على أي كان أن يلاحظ تحول المصريين من مجتمع فوضوي في تعامله مع قوانين السير ، التي أجمع المراقبون على أنه يعشق خرقَها - بل ويدفع رشاوى لكسر إشارات المرور ، وتجاوز السرعات المحددة ، والاصطفاف في الممنوع ، والسير في الاتجاه المعاكس ، والتواطؤ في ذلك بتنبيه السائقين لبعضهم البعض لوجود رادار أو كمين عبر الأضواء - إلى مجتمع منضبط ، حيث يسوق كما يسوق غيره في الغرب .. لاشك أن القارئ الكريم سيسأل نفسه قبل أن يسألني : “كيف ولِمَ ؟ فيكون الرد بكل بساطة هو أن السلطات الجديدة في البلاد أصبحت جادة في تطبيق القوانين ومن بينها قانون المرور ، كما في الدول المتحضرة ، ما جعل رشاوى المصري لا تُجدي في رد المخالفات المرورية ، ما يضطر معه السائق المصري إلى احترام القانون ، والالتزام بالنظام ، ما قلل نسبة الفوضى بشكل مشهودة ، في انتظار ان تختفي بالكامل ، وذلك لأن مَن أمِنَ العقابَ أساءَ الأدب" ، والذي هو مبدأ المجتمعات الفوضوية .. باحترامها يقاس الرقي الأمم . مما سبق نكتشف أن المشكلة ليست في طبيعة المصري المتجنى عليها ولا في طبعه الفوضوي ، وإنما في هيمنة الفساد والاستبداد وإهمال أحوال البلاد والعباد ، والتراخي في تطبيق القوانين ، وتركها تنام في بطون المجلدات فوق رفوف المكاتب كما اعتادت الجهات المسؤولة ، والذي جعل "رجل الشارع المصري" يعتقد بأن الوطن أهمله وتركه مرتعا لانعدام الحقوق والأمن النفسي والجسدي -وهذا يصبُّ في خانة جميع المؤسسات السيادية في مصر ، وليس فقط النقل والطرق والمرور - وأن من الواجب رد خيار الإهمال بالإهمال وبخرق كل القوانين .. لكنه عندما طُبّق القانون بحزم وعماء ، احترمت الاكثرية القانون ، احترمه المواطنُ الشريف المنضبطُ بطبعه ، واحترمه المواطنُ الفوضوي الذي اضطره العقاب لاحترامه مرغمًا ، كما هو حال مواطني البلدان المتقدمة التي تطبق القوانين ، والتي يعد فيها احترامُ القوانين عادةً وأسلوب حياة ، والذي حول مواطنيها إلى منضبطين ، فنشأ بالتالي عن تطبيقه بفعل تراكُمي ، أجيالا ترى أن احترام القانون من طبائع الأمور ، وليس خوفًا من عقاب ، ومع كل هذا وذاك ، ينتظر من المواطن المصري العمل في سبيل المزيد من التطور نحو احترام أفضل للقوانين لأنه باحترامها يقاس الرقي الأمم.
|