محاكمة الوزير


توفر الانظمة الدكتاتورية لوائح ادانتها في صلب القرارات والقوانين الجائرة التي اعتمدتها ضد الشعوب خلال فترة حكمها ، ولاتحتاج طواقم السلطات الجديدة التي تخلفها ، كبير عناء لتصفية الآثار التي ترتبت على ذلك ، اذا توفرت النوايا الصادقة لاعادة البناء ، وفق قوانين دستورية جديدة ، يقف أمامها المواطن والمسؤول الحكومي بالتساوي في الواجبات والحقوق .
لكن الذي حدث في البلدان التي أُسقطت فيها الدكتاتوريات ، أن الشعوب أنجزت واجباتها ( لتخويل ) النخب الحاكمة الجديدة من خلال الانتخابات ، العمل لأعادة بناء الأوطان ، فيما تعثرت تلك النخب ومازالت في انجاز واجباتها المحددة في الدساتير التي صاغتها ودعت شعوبها للتصويت عليها ، تمهيدا لتصفية آثار الدكتاتوريات والبدء ببناء الاوطان المدمرة ، حتى تحولت الى دكتاتوريات جديدة في ظل الديمقراطية التي اوصلتها لمواقع القرار !.
الذي يحدث الآن في العراق بعد ( 11 ) أحد عشر عاماً من سقوط الدكتاتورية ، لايمكن لأي مُراقب للأحداث تصوره قبل سقوط الدكتاتورية ، وهو في كل التفاسير والتصورات يفوق القدرة على توقع حدوثه ، فقد تجاوزت فيه الضحايا البشرية ( وهي الأهم في قياس النتائج ) كل التصورات والرؤى والاحصاءات ، وأذا أضفنا له الخسائر المادية ، تكون ارقامه خارجة عن المعقول بالقياس لكل النظريات التي وضعها المفكرون على مدى تأريخ البشرية .
ان نوعية وحجم الكوارث التي حصلت بعد التغيير في العام ( 2003 ) هي مسؤولية الحكام الذين تصدروا المشهد السياسي وحكموا البلاد منذ ذلك التأريخ ، وكل الخراب المتواصل مع الخراب العام الذي ورثوه من الدكتاتورية السابقة هم مسؤولون عن أسبابه ونتائجه وتداعياته .
لقد أطاحت النُخب الحاكمة بـ ( أحلام العراقيين ) في بناء وطنهم الجديد ، الذي كانوا يتمنون أن يردوا باعادة بنائه ، على جرائم الدكتاتورية التي أستهدفتهم بالقمع والسجون والحروب والتجويع والقتل المجاني ، من خلال سياساتها الفاشية ، وأكتفت تلك النخب بتفصيل القوانين لمصالحها الفئوية والحزبية والعائلية ، بعيداً عن مصالح عموم العراقيين وفقرائهم على وجه الخصوص ، ليكون ( الناتج الأجمالي ) تقسيماً علنياً للمجتمع بين مستفيد من الخراب ومتضرر منه ، وتستمر النتائج على حالها بين الدكتاتورية التي سقطت بتضحيات الفقراء والديمقراطية الجديدة التي لازالوا يدفعون في ظلها نفس الضرائب المفروضة عليهم وحدهم ، فيما يجني الحكام وبطاناتهم المناصب والثروات التي توفرها .
اذا كان ( الفساد ) هو العنوان الأبرز للانظمة التي جاءت بعد سقوط الدكتاتوريات في البلدان العربية ، فمن حقنا أن نُقارن بين أي منها وبين العراق ، والمقارنه هنا ليست تزكية للآخر ، بقدر ماهي قياس نطمح أن تكون نتائجه لصالح العراق، لكنه لم يثحقق ذلك ، فقد ( قضت ) محكمة جنايات شمال القاهرة يوم أول أمس ( الخميس ) ، بالسجن ( 10 ) سنوات على وزير الاعلام الاخواني ( الهارب ) المدعو ( صلاح عبد المقصود ) لأدانته بتهمة ( الاضرار بالمال العام ) بماقيمته ( 48 ) مليون جنيه وغرامة بالمبلغ ذاته ، جراء ( سماحه بتواجد سيارات البث الفضائي المباشر التابع للتلفزيون المصري في محيط الاعتصام المسلح التابع لتنظيم الأخوان بمنطقة ( رابعة العدوية ) ، على نحو تسبب في الاستيلاء عليها وأتلافها من قبل المعتصمين ) ، علماً أن المبلغ المذكورلايتجاوز في كل الأحوال ( 10 ) مليار دينار عراقي ، وأذا وضعنا ( فعل ) المحاكمة وقرار الحكم في معادلة المقارنة مع الافعال المشابهة له في العراق ، تكون النتائج أحكاماً بالسجن على قوائم طويلة من المسؤولين العراقيين ، ربما تشكل في مجموع سنواتها رقماً يتم تسجيله في الموسوعة العالمية للارقام القياسية !.
لقد تجاوزت أرقام الثروات العراقية المهدورة نتيجة السياسات الخاطئة للحكومات العراقية المتعاقبة مئات المليارات من الدولارات ، ولم يُقدم أي من المسؤولين العراقيين المتسببين باهدارها الى المحاكم ، رغم وجود هيئة ( مستقلة ) للنزاهة ، يُفترضُ أن وظيفتها الرسمية الحد من هذه الانشطة المدمرة للاقتصاد العراقي ، وهي في هيكليتها وقانون تشكيلها وانشطتها تمثل الجهة الاولى المسؤولة عن التصدي للفساد في العراق ، لكنها الى الآن لم تُقدم ( رأساً ) فاسداً الى المحاكم العراقية ، علماً أن جميع مافيات الفساد في العراق تقودها وتشرف عليها أسماء وعناوين بعضها أكبرمن وزير !.
الى الآن ، وفي ظروف الأخطار الجسيمة التي يواجهها الشعب العراقي في حاضره ومستقبل أجياله ، لازالت نخبه الحاكمة موغله في أخطائها القاتلة في أدارة البلاد ، ومُفضلة على برامج وحدتها لتحقيق البناء ، برامجها النفعية في تشتيت الجهود لغايات لاتخدم الوطن والمواطن ، وهي بذلك تصطف باصرار غريب في ( كراديس ) لاتختلف في أدائها وترتيبها وأهدافها عن اسلوب الدكتاتورية التي جاءت على أنقاضها .
والى أن تشهد قاعات المحاكم العراقية وقائع محاكمات لمسؤولين حكوميين تسببوا في خرق القوانيين العراقية النافذة وفق الدستور العراقي المصوت عليه من الشعب ، بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية وعناوينهم الوظيفية ، فأن كل مايقال عن سيادة القانون وتنفيذه في خطب القادة وبرامج أحزابهم ، سيتحول الى حكايات ونكت للتندرعليهم وعلى أحزابهم التي فقدت مصداقيتها وأساءت لتأريخها بعد تربعها على كراسي السلطة .