كيف بمكنها أن تكون متفائلة في عالم يغص بأسباب اليأس؟ هي المقيمة في أخبار الآخرين، القافزة بين سطرين، ينقض أحدهما الآخر. منذ بداياتها عرفت كيف تصنع مسافة بينها وبين ما تراه وما تسمعه. ألأنها تؤمن أن الحقيقة تقيم في مكان آخر؟ ذلك لم يمنعها من الاستمرار في الاندفاع بحماس وراء ما تحب، فلم تكن حذرة في إظهار عاطفتها ولم تصدّق أن الحياد هو صفة مفروغ منها.
انحيازها لمهنتها جعلها تقف مع الضحية، في مغامرة لم تخرجها من أصول المهنة، بل وهبت تلك المهنة قدرا لا يستهان به من الشفافية والنزاهة والصدق.
مثلما اختارت أن تكون مواطنة من طراز خاص، يحكمه شعور عظيم بالحرية والاستقلال عن الشروط العقائدية اختارت أن تكون صحافية من طراز خاص أيضا.
لم تبد يوما ما قلقها مما ينطوي عليه العمل الصحفي من استهلاك ولم تعر اهتماما كبيرا لحلم كل فتاة شغفها الأدب في أن تكون كاتبة.
كان لديها ما يكفي من قناعة الكادح التي حققت من خلالها الشهرة قبل أن تصل رواياتها إلى القوائم القصيرة لجائزة “بوكر” في نسختها العربية.
وهو وصول نظر إليه الكثيرون من جهة ما ينطوي عليه من اختراق، تضحك إنعام كجه جي كعادتها من النجاح مثلما كانت تواجه الخيبات بالضحك.
لقد تعلمت من مهنتها في الصحافة التي تعتز بها أن هناك وجها آخر لما يحدث، عليها أن تقيم له اعتبارا. وهو ما جعلها متوازنة في مواجهة الشهرة التي هبطت عليها بسبب رواياتها. وهي شهرة كانت إنعام قد استعدت لها وإن لم تنتظرها بقلق.
سواقي القلب
قبل “سواقي القلب” روايتها الأولى كانت إنعام كجه جي قد نشرت كتابا عن لورنا، زوجة الفنان العراقي الرائد جواد سليم، استعملت فيه مهاراتها الصحفية في الكشف عن الجوانب الخفية في حياة تلك المرأة التي لم يعرف عنها العراقيون شيئا، سوى كونها رسامة لم تكن ذات أهمية وزوجة لسليم. في ذلك الكتاب الناجح بكل المقاييس، وجدت كجه جي ضالتها المتمثلة في الكتابة عن نساء تمكنّ من صنع أقدارهن بأيديهن.
وهو ما هداها إلى كتابة روايتيها اللاحقتين “الحفيدة الأميركية” و”طشاري” وإن بدت بطلتا الروايتين على تعارض كبير بين نموذج سلبي يتجه إلى الهدم والخيانة وبين نموذج إيجابي خلاق يعلي من شأن المرأة، كونها عنوانا للوفاء.
في الحالين كانت إنعام مخلصة لهدفها في إظهار قوة المرآة، في الشر كما في الخير على حد سواء.
سطع نجم ابنة الموصل واختارت أن تكابد العيش في الغربة فكانت باريس وجهتها للدراسة عام 1979. وفيها نجحت بالعمل في مجلات عربية مرموقة، فكانت تكتب بلسان جيلها الذي حطمته الصراعات العقائدية وأدت به إلى الهزيمة بالنسبة إليها وهي التي مارست الكتابة الصحفية منذ أربعين سنة فإن كل شيء يستحق أن نتأمله ونقف عنده. لم تكن الحياة من وجهة نظرها مجموعة من الوقائع الكبيرة، بقدر ما هي سيل متدفق من الوقائع الصغيرة والحكايات العابرة واللقاءات المفاجئة التي تكتسب طابع الذكرى مع الزمن. لذلك لم تشأ إنعام وهي تكتب الرواية أن تغادر عالمها الأصلي.
لم يؤرقها الأدب فتنحرف بأسلوبها ولغتها وطريقة تفكيرها ومزاجها الإبداعي إلى طريق لم ترغب أصلا في أن تكره نفسها على ولوجها.
غير أن ذلك التخلي عن الأدب جعلها تخترع نوعا جديدا من الرواية لم يعرفه أدبنا العربي.
ربما نخون صنيعها الروائي لو أطلقنا عليه على عجالة تسمية الرواية التسجيلية (الوثائقية). غير أن كجه جي كانت حريصة على الوصول إلى المصادر الواقعية لتسجل أحداث رواياتها من خلال الإنصات إلى أصوات بطلاتها الحقيقيات. لم تخترع إنعام إلا جملها وكان خيالها يصنع صورا لحياة لم تعشها شخصيا.
لم تكن حرّة في التدخل في مصائر بطلات لم تخترعهن، لم تكن صاحبة أوهام أدبية، وهو ما أنقذها من الكذب الجميل.
مقاتلة الجبهات المتعددة
نساء كجه جي المستعارات من الواقع لا ينفصلن عن فكرة البطولة التي هي نوع من المجازفة التي عاشتها الكاتبة وهي التي أقامت في جزء من حياتها على الحافات.
فالروائية المولودة في حيّ عريق من أحياء بغداد عام 1952 ابنة لعائلة قدمت من الموصل إلى العاصمة كانت قد تخرجت من قسم الصحافة في كلية الآداب في أول دفعة للصحفيات المحترفات، وهو ما أهّلها للعمل في كبرى الصحف العراقية، غير أنها وبعد أن سطع نجمها اختارت أن تكابد العيش في الغربة فكانت باريس وجهتها للدراسة عام 1979.
في العاصمة الفرنسية نجحت في العمل في مجلات عربية مرموقة، فكانت تكتب بلسان جيلها الذي حطمته الصراعات العقائدية وأدت به إلى الهزيمة. لم تكن الجبهات التي حاربت عليها إنعام في غربتها الباريسية لتغفر لها حرصها على حريتها واستقلالها النادرين.
فكان استمرارها في الكتابة والعمل الصحفي الشاق نوعا من البطولة التي كرست اسمها خارج وصفات التواطؤ الجاهزة.
كانت إنعام صنيع تمسكها بالأسباب النقية التي دعتها إلى مغادرة العراق. لم تكن مسيرة حياتها المهنية مظللة بأشجار الورد.
لقد شقت كجه جي طريقها بصعوبة وهي تقاتل ضد جهات، كانت هي الأخرى مختلفة في شعاراتها، غير أنها في المحصلة كانت متفقة على إسكات كل صوت عراقي يشي باستقلاله.
إنعام كانت ذلك الصوت الذي نجا بوطنيّته من كل ذلك الخراب العقائدي.
صوت الأخت
كشفت إنعام كجه جي عن عراقيتها النقية، غير الملفعة بشروط مسبقة كما لم تفعل كاتبة أو كاتب عراقي من قبل. وكان ذلك سر نجاحها والسبب الذي جعلها قادرة بيسر على اختراق عالم الأدب.
تعلمت إنعام كجه جي من مهنتها في الصحافة أن هناك وجها آخر لما يحدث، عليها أن تقيم له اعتبارا. وهو ما جعلها متوازنة في مواجهة الشهرة التي هبطت عليها بسبب رواياتها ببساطة لغتها وعفة موقفها من الآخر، وهو القارئ في هذا الموضع، استطاعت أن تقول ما لم يقله أحد من قبلها. لم يكن الانتماء إلى العراق معقدا بالنسبة إليها ما دامت لم تضع شروطا لذلك الانتماء.
ولأنها لم تكن تسعى إلى مكانة أدبية فقد كانت تكتب كما تتكلم. مَن يقرأ رواياتها يشعر أنه في بيته.
صوت الأخت يأتي من غير أن يكون ملتبسا بسوء فهم من أي نوع. إنعام التي عرفتها منذ أكثر من ثلاثين سنة لم تكن تشعر أنها في حاجة إلى أن تخبّئ شيئا. ما في قلبها على لسانها. وحين قرأت رواياتها كنت أشعر أنني أستمع إلى صوتها الشخصي.
ليست الأديبة من تكتب ولكنها إنعام التي تتكلم لتخبرني حكاية لم أستمع إليها من قبل. حتى في “الحفيدة الأميركية” كانت إنعام حريصة على أن تدلي بشهادتها الشخصية. لم تكن شفقتها على البطلة التي انحدرت أخلاقيا إلا نوعا من الوعي الشقي بإنسانيته. كانت إنعام في كل ما كتبته إنسانا يغفر، لا يسمح له موقعه في إصدار الحكم النهائي.
وفاؤها للكتابة
من خلال عملين روائيين مغرقين في البساطة وضعت إنعام كجه جي الرواية العراقية على طريق العالمية. لا مجال هنا أن نتحدث عن السهل الممتنع. لو فعلنا ذلك ستسبقنا ضحكة إنعام إلى نهاية الجملة. ذلك لأنها كتبت بالطريقة التي تحب. وهي الطريقة التي أخذت من عمرها أكثر من ثلاثة عقود.
وفاؤها للكتابة جعلها لا تلتفت إلى ما يمكن أن تضفي تلك الكتابة عليها من صفات. كانت حريصة دائما أن تقدم نفسها باعتبارها صحافية. وهو ما أعانها على أن تنجز أعمالها الروائية بخفة وسحر نادرين. لقد كتبت إنعام الرواية في وقت متأخر من عمرها، غير أن من يعرفها جيدا لا بد أن يدرك أنها لا ترى في كل ما تفعله إلا نوعا من التحية للعمر الجميل الذي عاشته.
فهي كاتبة تضفي على أصغر الوقائع هالة إنسانية تستثنيها من صفاتها العادية.
|