الازهر والموقف المسؤول

رغم تواضع النتائج التي خرج بها الأزهر الشريف في مؤتمره الأخير حول الإرهاب واتصاف تلك النتائج بالعمومية والإنشائية والتأكيد على حقائق معروفة للجميع وثوابت مسلَّم بها تاريخيا كالتعايش الديني والمذهبي والتآلف المجتمعي بين الطوائف والتأكيد على الإدانة ورفض الممارسات التي تنتهجها التنظيمات الإرهابية البعيدة عن أخلاقيات الدين الاسلامي الذي تدعي الانتماء اليه، اضافة الى التشديد على ان الازهر اكبر مؤسسة دينية تمثل العالم الاسلامي السني الذي يسعى الى كشف الغطاء عن التنظيمات الارهابية والسلفية التي تدعي الانتماء الى مذاهب اهل السنة واهل السنة منهم براء، الا ان هذا المؤتمر الذي عقد ليومين متتاليين وبمشاركة اكثر من مئة دولة منها العراق وتحت شعار''الأزهر في مواجهة الإرهاب والتطرف'' يشكل اهمية استثنائية بسبب هدفه القاضي باتخاذ موقف صريح وواضح من الارهاب ومن يمثله وكشف اوراق التنظيمات الارهابية التي تدعي اسلاميتها وسنيتها، وإعلان براءة الاسلام من هكذا تنظيمات وبحث آليات مواجهة التطرف والإرهاب وتوضيح الصورة الحقيقية والحضارية للإسلام كدين وحضارة.
ان هذا المؤتمر الازهري جاء كخطوة اولى على الدرب المفضي الى عزل وتعرية الجماعات الاسلاموية ـ السلفية المتطرفة ذات المنهج التكفيري القروسطي القائم على آليات تدميرية من خلال بث الرعب والقتل والذبح والتهجير والاغتصاب والاستعباد، وهو خطوة عسى ان تتبعها خطوات عملية تأخذ مدى ابعد من القوالب اللغوية الجاهزة ومنطق الاستنكار والشجب والإدانة من ارفع مستوى ديني اسلامي، في وقت يعيث فيه الارهابيون من الدواعش وغيرهم فسادا في ارض المسلمين، كما انه خطوة اخرى في تتبع مصادر تمويل هذه الجماعات وتجفيفها والضغط على تلك المصادر بأن ترفع يدها عنها.
جاء المؤتمر بعد ان كان الازهر متذبذبا ما بين الصمت او الخضوع الى اللوبي الاقليمي والدولي الداعم للجماعات الارهابية ويبدو ان سبب هذا التردد من قبل الازهر قد يكون لأحد سببين، السبب الاول هو دائرة الاستيهام التي حشر الازهر نفسه فيها جراء الفكرة المضللة التي نقلتها وسائل الاعلام المغرضة من ان هنالك تناحرا طائفيا في الشرق الاوسط بدأ اول فصوله في سوريا وانتقل في ما بعد الى العراق وقد ينتقل الى مناطق اخرى "مرشحة" لذلك، فالمسألة هي طائفية بامتياز وان مايجري هو جزء من فصول التناحر والتنازع المذهبي بين السنة والشيعة كما يوهم الاعلام المغرض وكما عبأ عقول المستغفلين بهذه الافكار البعيدة عن الحقيقة والواقع، لأن "داعش" ليس تنظيما سنيا ولا يحظى بتعاطف احد من جمهور اهل السنة وضربه لبعض المناطق السنية هو ابرز دليل على مانقول، والسبب الثاني لتردد الازهر الشريف من اعلان موقفه بصراحة وعلى الملأ الدولي هو انه اراد ان ينأى بنفسه عن أي اصطراع اقليمي باتخاذ الموقف "الحيادي" وعدم الركون الى جهة ما، ولكن التهديد الخطير الذي اقترن بممارسات تنظيم "داعش" الذي تمدد الى مناطق واسعة من الشرق الاوسط واحتمال تمدده الى مناطق اخرى والممارسات الاجرامية واللاأخلاقية والشاذة التي اقترفها هذا التنظيم ضد من تقع يده عليه دون التفريق مابين دين وآخر ومذهب وآخر، شكّل تهديدا اقليميا وعالميا مباشرا وهو الامر الذي دعا الأزهر الى عقد مؤتمره بعد ان طفح الكيل ليقول كلمته الصريحة، وهو امر دعا بابا الفاتيكان ليطلق الموقف نفسه من اسطنبول التي زارها مؤخرا.
وجاء المؤتمر برعاية الإمام الاكبر د.احمد الطيب بمشاركة اكثر من مائة عالم دين إسلامي ومسيحي من أكثر من مائة دولة بينها العراق الذي مثله رئيسا الوقفين الشيعي والسني وهما السيد صالح الحيدري والشيخ محمود الصميدعي وتضمن محاور عدة منها (تصحيح المفاهيم، والمواطنة والأقليات، والإرهاب والتطرف وخطره على الأمة، والإلحاد وخطره على السلم العالمي، وظهور الجماعات الدينية المتطرفة التي تأخذ من الإجرام سبيلاً لنشر موجة الإرهاب باسم الإسلام وتحرير الخطاب الديني من الروتين ومواجهة الفكر التكفيري وإعادة الصورة السمحة للإسلام وصورته البيضاء، ومحو صورة الإسلام التي طبعتها تلك الجماعات الإرهابية والتأكيد على دور العلماء والمؤسسات الدينية في مواجهة الأفكار الهدامة وتصحيح الصور المشوّهة للدين وكذلك تطوير الخطاب الديني المعتدل في المجتمعات العربية وإعلاء المفاهيم السمحة للدين الإسلامي الحنيف).
وجاء مؤتمر الأزهر بعد ايام من عقد مؤتمر عالمي تحت عنوان "خطر التيارات التكفيرية من وجهة نظر علماء الإسلام" في مدينة قم الايرانية، ليؤشر المؤتمران الى سعي المرجعيات الدينية في العالم الاسلامي اجمع الى القيام بدور اكبر في التصدي للفكر التكفيري المتطرف والارهابي وما يشكله من خطر يهدد إنسانية الإسلام وعالميته. وقد يكون مؤتمر الازهر الشريف اول الغيث في المسعى الإقليمي والدولي لمكافحة جميع انواع التطرف.