كيف تحيون في بغداد؟

هذا السؤال اطلقه لي الصديق “و...” الذي يعيش في منفى بعيد وشديد البرودة، وذلك في رسالة تحمل ايضا هواجس الخوف مما يحيط بمستقبل البلاد، فيقول في بعض سطورها:
“اقف حائرا، ومتسائلا: كيف تحيون في بغداد، اعني كيف تطمئنون الى الالغاز المخيفة التي تحيطكم وسط هذه الحرائق ومشاهد التفجيرات الداعشية المروعة والجدران الكونكريتية والاختطافات وظواهر الخوف، وانعدام الثقة في الشارع السياسي حيث انتقل الى ما بين الناس، وانتشار المافيات والعصابات المسلحة مما نسمعه وتنقله لنا وسائل الاعلام، الى الارتفاع المخبول بالاسعار، الى التردي في الخدمات الى الاحوال المزرية للنازحين من مناطق الحرب والارهاب: هل تمارسون شكلا من الاشكال الموصولة بالحياة؟ الخ”.
وردا على هذه الرسالة كتبت الى الصديق (و..) حوارا طويلا بعضه قد لايصلح للنشر لعلاقته بخصوصيات التقاويم والانتماء والهوية، والبعض الاخر يخرج عن فروض الاجابة الحصرية عن حياة الناس، والحساسين منهم، في العاصمة بغداد في ايام شديدة النحاسة والضغوط والاحتباس، والبعض الاخير مما يمكن وصفه بالعموميات التي تذكّر صاحب الرسالة بالسنوات العراقية ما بعد اندلاع الحرب وصعود نظام صدام الفردي الى فاشية منفلتة، وكيف عاشها اولئك المقموعون في تفكيرهم المستقل وفي لقمة عيشهم الكريمة، مما لايمكنهم تقليص حياتهم الى مبررات باردة، وتمنيات ميكانيكية، بديلا عن تلك التفاصيل الحميمة، قلت له بما نصه:”الآن ياصديقي لا استطيع ان اخدعك فاقول نحن سعداء لما يحدث لنا، كما لا استطيع ان اقول لك اننا مرعوبون وشرسون وفاقدون للانسانية كفاية. اننا في المنطقة التي يضطرب فيها الوزن وتلتبس خلالها المشاعر وترتد عبرها المقولات والحتميات بالامس كان رتلا طويلا من الحافلات التي تنقل فتيانا يزفّون بانفعال صديقا لهم فتختلط الاجساد باصوات الرصاص بالشمس التي لاتريد ان تأفل من على جسر الجادرية، فالمخاوف، ودورات العنف والتفجيرات وشناعة جرائم داعش لاتقتل الحياة كلها، بل انها تدفع الناس، ربما غريزيا، الى الامتناع عن يكونوا علامات للموت الداهم.
نحن لا نقع عن كراسينا فرط التذمر والخوف، ثمة جيل يثبت ويبحث ويقدم. اقول جيل، ولاتسألني عن نسبة هؤلاء، فانا اتحاشى ان احول الظاهرات البشرية الانسانية الى ملصقات سياسية. في لحظات، ومن زوايا معينة، نكتشف فضائح مروعة، جنب اكتشافنا لجماليات العطاء في صور مبسطة ومعقدة. الجمعة الفائتة اخذنا مركبا نهريا وقطعنا المسافة من القشلة الى جسر الاحرار رواحا ومجيئا. كانت بغداد كما لو انها تبتسم، بل كانت تبتسم، لكننا خفنا ان نبتسم، آنذاك، قبل ان نصل بيوتنا احياء.


“ “العقل كالبارشوت، يجب ان ينفتح”.
انيس منصور