فاجأني صديق لي بسؤال لم اكن اتوقعه ...هل كل هذه الملايين التي توجهت الى مدينة كربلاء هي من اجل الحسين (ع) .. وعلى سجية المستعجل بالاجابة ...اجبته اجابة مستعجلة وعلى السجية ومن باب النكنة والمزاح ...اهلنا البغادة ايام زمان كانوا (يكولون لاتصدكهم يبجون على الحسين وانما يبجون على الهريسة ) وللتوضيح المقصود ليس بسطاء الناس والحضور وانما المقصود هم بعض الملالي والرواديد الذين يروجون لمهنتهم وليس للمناسبة وبذلك تزداد مدخولاتهم الجيبية ويشاع ان بعضهم اصبح من اصحاب الملايين وحتى المليارات وعلى حساب دموع المظطهدين والجياع والمحرومين ... وواصلت الاجابة ولكن بجدية ..لا بالتاكيد وانما ربما لاسباب عقائدية وسياسية وربما اجتماعية ...وبعد ان افترقنا استعدت مع نفسي السؤال وجوابي عليه ..وهل كنت مصيب او مخطيء في الاجابة ؟؟..وهنا شعرت انني استعجلت بالاجابة وان ما سمعته قبل ستين سنة ليس بالضرورة صحيح 100% هذه الايام فالكثير من المتغيرات طرأت على السلوك الجمعي والعبادي للناس في المجتمع العراقي وطيلة العقود الماضية .. وعدت بذاكرتي لآيام طفولتي وفي بيت ابي ...البيت الذي نشأت فيه وترعرعت الى سن الحادية عشرة من عمري والذي كان يقع في احدى محلات بغداد المعروفة انذاك .. لقد كان الوالد (رحمه الله) يقيم عزاء الحسين (ع) سنويا وطيلة عشرة ايام عاشوراء وكنا ننتظر هذه المناسبة بشغف وولع طفولي وباهتمام عفوي وبفرح بالرغم من طابعها الحزين .. واذكر وحسب اعمارنا كنا نشارك ونقدم الخدمة (قهوة وسكائر وماء لا اتذكرها اليوم بالضبط ) للمشاركين بعزاء الحسين وكانوا انذاك لايتجاوزون المئة من الاقرباء وابناء المحلة ..ان لم تخني الذاكرة في العدد والتقدير .. ولكن اذكر جيدا ان باحة بيتنا وحتى الطابق الثاني مليء بنسوان العيلة والاقرباء والجيران وأما الطابق الارضي بالرجال وحتى الفضوة (الفسحة كما كانت تسمى انذاك ) امام الدار فيمتلآ بالناس شيبا وشباتا لان الصوت كان ينقل عبر السماعات ( مكبرات الصوت كما كانت تسمى انذاك )..وحتى الرادود رحمه الله كان من الاقرباء ( اي من العشيرة ) وكان(رحمه الله وكان اسمه علي ) شابا مليح الصورة وشجي الصوت وبالتاكيد كان محط انظار الشابات ..وعندما كان يصعد المنبر ويبدأ القراءة ..كان خبيرا في الهام اللطامة وكان لصوت اللطم وقع غريب وحزين على نفوسنا ولاسيما في نفسي شخصيا ويصاحبه بكاء النساء من الاعلى ..وبالرغم من كوننا اطفال كنا نندمج مع الكبار ونتباهى كيف كانت اثار اللطم على صدورنا الطفولية والرقيقة العارية ..( والغريب انني سمعت ان الرادود كان سكيرا ومات بسبب ادمانه على الخمر ...) وعندما تقترب مناسبة زيارة الاربعين كان المشرفين على موكب العزاء يساقرون الى كربلاء يتهيأون وقبل عدة ايام ويحجزون الخانات المناسبة لايواء ابناء المحلة المشاركين بالزيارة ...وكعادة الاطفال والصبيان والمراهقين ..كانت هذه المناسبة مهمة في حياتنا حيث كنا نقلد الكبار فيما يعملون ولاسيما ظاهرة التعصب لموكب محلتنا تجاه مواكب المحلات الاخرى ..ونتباهى ونعتز امام الاخرين بما يردده الرادود من ردات ولاسيما عندما تكون جريئة وتنتقد سياسة النظام الحاكم انذاك بعلنية وكان هذا يرعب الحكام وكنا كصبيان نردد ما نسمعه من الكبار بعد انتهاء المناسبة ونتباهى بنشاط المشاركين في قيادة الموكب ( وكان الموكب سيدخل معركة مع بقية المواكب ) ولاسيما اثناء الخروج والمسير والمحافظة على النظام والسيطرة في الشارع ومن كان اكثر لطما من غيره وتاثير الردات على الجماهير المتفرجة والواقفة على الارصفة ...ولم يكن يفوتنا ان نغمز الشاب زيد من الناس بقرصة خفية ( شفتوا فلان شلون يحمى باللطم من يشوف البنات ) اضافة الى السهر والسمر الى ساعة متاخرة من الليل والتجول بين المواكب في انحاء المدينة وتناول الاكلة الوحيدة والمعروفة (التمن والقيمة ) والنوم على الارض متلاصقين جنبا الى جنب بسبب ضيق المكان ...وهنا لابد لي ان انوه الى ان مدينة كربلاء كانت تضيق بالزوار بحيث لاتستطيع التحرك بسهولة وحرية وليس هذه الايام فقط وانما من ايام طفولتي عندما كان تعداد شعب العراق كله لايتجاوز 4 ملايين نسمة ...وحتى كان يلاحظ ان المدن والشوارع تفرغ من اهلها .. اما الاعداد فقد ازدادت ولاسيما في الايام الماضية فلا استغرب ان قدرت الحشود ب20 مليون زائر وكان بينهم عدة ملاييين من خارج العراق عرب ومسلمين .. ولكن هذا العدد الهائل ولو قورن بعدد حجيج مكة الذين يعدون 3-4 مليون قياسا بحشود كربلاء لتصورنا عبأ و زخم بشري لايطاق ومع قلة الامكانيات في السكن والخدمات ...وهنا لابد للمنصف ان يقف اجلالا واحتراما لمن ساهم في احتواءهم وتوفير الامن والسكن والطعام لهم في زمن يعيش العراق حرب مفروضة وفوضى امنية وبالرغم من التهديدات التي اطلقتها داعش للمدينة وزوارها وبالرغم من الصواريخ والهاونات التي رماها اعداء الحرية ..مما يوجه رسالة متعددة الاهداف ولكل العالم ..ان زيارة الاربعين ستبقى خالدة وتتعاظم سنة بعد ستة .. وهنا لابد للمرأ ان يقف مفكرا ومتساءلا ما الدوافع وراء هذه المعاناة الانسانية والبدنية التي يعانيها الزائر كي يفوز بزيارة قبر الامام ؟؟ انني اعتقد ان الدوافع متعددة ..منها 1 – الحسين (ع) هو ابن بنت الرسول ووارث نهجه وسيرته وسنته واحق من غيره في رفع راية الاسلام من غيره ..وعندما دعاه العراقيون للمجيء الى العراق ..لبى النداء وبكلمات معدودات حدد اهدافه بما يلي {إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً انما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي} اي لم يطلب مصلحة شخصية او حزبية اوسلطة دنيوية ويكفيه فخرا انه من ذرية اكرم واشرف واقدس خلق الله .. فكان خروجه من اجل الاصلاح وعلى خطى الرسول الاكرم وهي اتمام مكارم الاخلاق ومحاربة الفساد في المجتمع بعد ان استشرى..ونشر رسالة العدل والاصلاح وفي طريقه تصدى له الجلاوزة من القتلة وارتكبوا المجزرة بحقه وبحق اصحابه والتي عرفت بواقعة الطف التي يندى لها الجبين ولازال حتى يومنا هذا .. وضحى بنفسه واهله واصحابة لنصرة الحق على الباطل وثورة المظلوم على الظالم ... 2 – وبعد تقاعس العراقيون ممن دعاه عن نجدته فقد اصابهم الندم على غدرهم به وعدم نصرته في معركته ضد الظلم والظالمين ...فعبروا عن ندمهم وعبر الاجيال بالحزن والبكاء ...وبمرور الزمن نجد ان شعائر الحزن والندم تتغير وتزداد تعبيرا عن الموالاة لال بيت الرسول ...ولو ان الكثير من المدسوسين والكارهين لال البيت يحاولون تشويه هذه الشعائر ببدع من الايغال في جلد الذات كالتطبير والزناجيل والزحف على البطون وغيرها مما يتنافى مع النهج الاسلامي والانساني الطاهر والمعقول..ليس حبا بالامام والمذهب وانما تشويها واساءة.. 3 - سميت هذه الزيارة بالأربعين لأنها تمثل مرور أربعين يوما من أستشهاد الإمام الحسين عليه السلام في العاشر من المحرم سنة 61 للهجرة.واسوة بما ورد في سورة المائدة:«انصرف آدم يبكي على هابيل أربعين يوماً وليلة».وفي العراق يحتفى اهل المتوفي بمرور اربعين يوما على وفاة كل متوفي من عامة الناس .. 4 – المسلمون في العراق لم ياتوا بجديد بالحزن على سيد الشهداء فقد ورد في كتب التراث .. ان العرب وحتى قبل ظهور الاسلام كانوا يرثون الميت ويلبسون السواد في الحداد على الميت وهذه العادات ليست بدعة كما يروج البعض ممن يعتبرها شعيرة فرعونية او اسرائيلية .. والاسلام نهى عن ممارسات للاسف لايلتزم بها البعض مثل مشاعر الحزن المنفلتة عن سيطرة الحزين في لحظة الصدمة كشق الثياب والعويل والصياح واللطم على الوجوه وخرمشتها .. وهنا لابد من التنويه ان النهي يختلف عن التحريم والنهي لا يخرج عن حالة نفسية انسانية لاتخالف الشرائع السماوية ولكنها غير محبذة ومكروهة ...وبهذه المناسبات الجماهيرية الحاشدة لا تخلوا من محاولات اطماع البعض من تجار الدين ومناسباته لاستغلالها دنيوينا ولاغراض سياسية تصب في مصالح احزابه السلطوية .. 5- كل الدارسين لتاريخ شيعة ال البيت في العراق يجد انهم بسطاء وفقراء وطيبين وحتى مسالمين ولا يميلون للعنف واضطهاد الاخرين وهي من المظاهر في السلوكية اليومية للمواطن العراقي عامة والشيعة خاصة والتي يلاحظها كل مراقب ودارس ومتتبع منصف وموضوعي ومتجردمن التعصب الطائفي والمذهبي الاعمى ...والسبب في ذلك وحسب قناعتي الشخصية هو ايمان عقائدي وفلسفي ..حيث تجدهم ولاسيما المؤمنين الحقيقين ...يدعون الباري عز وجل ( اللهم اجعلني مظلوما ولا تجعلني ظالما ) امتثالا لدعاء الامام علي ابن ابي طالب (ع ) كما يشاع .. وطبيعي هذا لايشمل الجميع ولابد من وجود شواذ يتمردون على هذه القاعدة ويتحولون الى قتلة ومجرمين .. سواء من هذه الطائفة اوتلك ..اي ان لكل قاعدة شواذ كما يقال عندنا في العراق..وهذا ما يحاول بعض خونة العراق (تجنيا وافتراءا ) ان يدعيه اعداءهم ومخالفيهم من المتعصبين الحاقدين من الطائفيين و كما يحدث ويروج له اليوم لزيادة الشحن والحقد الطائفي بين مكونات الشعب المسالم ... اذن فلكل قاعدة شواذ وكما يقول اهلنا (ان كثرة الدق يفل الحديد) .. ويمكن الوصول الى هذه الحقيقة المرة ..بتعداد وكثرة التفجيرات والتفخيخات ورمي الصواريخ والهاونات ذات الاغلبية المعروفة وتستهدف مدنا بعينها وطائفة بعينها ..وهنا لابد للمرأ ان ينفي التهمة عن الاصلاء والشرفاء ومن كلا الطائفتين لان هذا السلوكعشناه في طفولتنا وشبابنا وحاشا المؤمنين الحقيقيين من كلا الطائفتين ان تسلك هذه السلوكية الشائنة والمخالفة لشرع الله ... ولكن انا عندي قناعة شخصية ان من وراء هذه الجرائم الحقيرة هي مخابرات اجنبية لاتمت الى الطائفتين بصلة ولكن هدفها الايقاع واشعال الفتنة بين الطائفتين ليقتل بعضهم البعض .. 6 – تذكر لنا كتب التاريخ ان معظم الائمة الاثنى عشرية ماتوا اما قتلا او مسمومين وكذلك كان اتباعهم ملاحقين ومظلومين ولهذا يلاحظ ان مظاهر الحزن غلبت على سلوكيتهم وطبعتهم بالشعور بالمظلومية ...وبما ان الطيبة والبساطة والمشاعر العاطفية هي السائدة عند العراقيين الساكنين او المنحدرين من سكان الريف الساكنين على ضفاف الرافدين في المنطقة الحنوبية والوسطية من العراق وتميزوا بالميل الى السلم ونبذ العنف والتعصب ولاسيما التعصب الاثني او الديني او الطائفي وحتى العشائري وهنا يكمن التفاوت في اظهار مشاعر الحزن عند سكان الريف اكثر من البدو وسكان الصحاري .. الذين تميزوا بالصبر والتحمل والقسوة .. 7 – قد يسال سائل ...هل الحشد المليوني الذي زحف الى كربلاء كان بدفع من جهات دينية او سياسية معينة او عفوي ؟؟والجواب هو بالتاكيد عفوي وليس بجديد على العراقيين وتحركوا مندفعين بحركة ايمانية وبعقيدة وقناعات شخصية فليس من المعقول ان تتحمل عناء وعذاب مسير 600-700 كم مشيا على الاقدام من عربستان الايرانية او من دول الخليج متجهين لزيارة سيد الشهداء في كربلاء...انني شخصيا اعتقد ان هذه الظاهرة الايمانية هي كرد فعل طبيعي للاحتجاج على ما يتعرض له الشعب من هجمات وابادة ترتكبها عناصر تكفيرية حاقدة وكارهة للحياة ومدسوسة من قبل اجهزة مخابرات اجنبية معادية للاسلام الحقيقي وللاسف باسم الاسلام مما شوه صورة الاسلام حتى عندنا نحن المسلمين .. فالزوار اختاروا لهم الرمز في مدينة الامام الحسين (ع) الذي ضحى بحياته وحياة رفاقه لنصرة الحق ضد الباطل والظلم والفساد واحياءا لنهج ورسالة جده رسول الله ..وانها مسيرة الملايين المحتجة لظلم الانسان لاخيه الانسان .... وعلينا ان ننتبه الى ان من شارك في هذه المناسبة ليس الشيعة وحدهم وانما من السنة وكل مكونات الشعب العراقي الاخرى ودول العالم الاسلامي .. 8 – اليوم وبعد ان اصبحت دراسة التاريخ اكثر علمية وبساطة ووضوح نجد ان الصراع عبر التاريخ لازال مستمر ودائم بين الحكام الظالمين وبين رعاياهم المظلومين وهذه الحقيقة المؤلمة ليست بجديدة ..وبما ان خروج الحسين (ع) هو لدعوتهم لنصرة العدل الحق وفي العراق بالذات ، كان النّظام السّابق يخشى تجمّع النّاس في كربلاء، سواء في المحرّم أوغيره،سواء في كربلاء او بغداد لذلك وضع الموانع والعراقيل وحتى العقوبات القاسية لمنعهم من التّظاهر أو من التّجمّع الذي تشهده كربلاء في مثل هذا اليوم في ذكرى عاشوراء وفي الأربعين، وما ذلك إلاّ لمعرفته أنّ الوفادة على الحسين(عليه السلام) تعني استنهاض الهمم، والمطالبة برفع الظلم. مما خلف ردود فعل عكسية وضاعفت من تصميم العراقيين لتحدي ظلم الحكام وفسادهم وما تشاهدوه اليوم الا برهان واقعي على تحليلي هذا .. 9 – والخلاصة والدرس المستنبط لكل حاكم او محكوم ولاسيما اؤلئك التكفيرين ومن يدفعهم ويساندهم بالمال والسلاح والذين يقتلون الناس عشوائيا وبلا وازع من ضمير ويحاولون اطفاء شعلة الحسين التحررية ضد الظلم والعبودية ...هذه الملايين من الزوار ترسل رسالة واضحة وصريحة لكل من يتصيد بالماء العكر .. تحذر وتنذر كل من تسول له نفسه سواء من التكفيريين او الحرامية والفاشلين الفاسدين و المخابرات الاجنبية التي تبذل المستحيل لاشعال الحرب الاهلية الطائفية بين مكونات شعبنا المظلومة والمسحوقة والمشردة .. الرسالة تقول لهم ان الشعب العراقي وبكل مكوناته وبكل اصدقاءه ومحبيه يؤكد لكم بملاينه العشرين التي زارت واجتمعت والتي تنادت في كربلاء ... ان كل محاولاتكم ستبوء بالفشل والخزي والعار ولن تنتصروا ابدا ..فالحق والعدل سينتصر حتما على مروجي ومستخدمي سلاح الطائفية والطائفيين والتكفيريين وحتى ولو اجتمعوا من كل انحاء العالم فارادة الاحرار والشرفاء من العراقيين والعرب والاسلام الخيرة والمحبة للسلام والحرية والامان ستنتصر في نهاية المطاف ورغما عن انوفكم وانوف من ارسلكم .. اللهم احفظ العراق واهله اينما حلوا او ارتحلوا
|