في السنوات اﻻ-;---;--خيرة من ثمانينات القرن الماضي كنت ابحث بلهفة عن القصيدة الشعبية الخالدة "ياحسين بضمايرنا " وقد حاولت تلمسها عادة عند المتدينين من الشيعة باعتبار انه من المنطق والعقل ان تلتمس النفائس عند من يهواها .. والقصيدة شأنها شأن كل مايمت بصلة الى الفكر الحسيني او قل "الشيعي " كانت من الممنوعات في زمن نظام صدام المقبور ويمكن لوجودها وغيرها من شبيهاتها من ذلك التراث الشعبي عند احدهم ان يؤدي به الى حبل المشنقة فضلا عن توابع ذلك على المال واﻻ-;---;--هل والعيال . والثقة واﻻ-;---;--مان في زمن البعث وصدام كانتا كما هو معروف مما يندر وجوده ويفتقد ضمانه حتى بين اﻻ-;---;--ب وابنه والزوج وزوجته واﻻ-;---;--خ واخيه فضلا عن الاصدقاء والجيران واﻻ-;---;--حبة والخلان .. لذلك كنت وانا ابحث عن ضالتي حذرا وانتقائيا فليس من الحكمة ان اعرض نفسي واهلي لنقمة البعثيين وانتقامهم الوحشي ... واظن والله العالم انه حتى من كان يملك تلك القصيدة كان ينكرها مني لذات السبب والعلة .. كان البيت الذي ترعرعت فيه حسينيا حد النخاع وكان جدي وجدتي وعماتي رحمهم الله من الحريصين على احياء ايام عاشوراء بكل معانيها وجوانبها فالسواد والحزن يطغي على كل شيء في البيت ... ورغم ان البعثيين ولعدة مرات استدعوا جدي الى مقرهم وابلغوه بالكف عن اقامة مجالس العزاء الحسيني التي كانت تستمر الى مايقارب الشهرين وتهديدهم المستمر له بالحبس والاعدام اﻻ-;---;-- انه لم يكف ابدا عن اقامة تلك المجالس في (ديوانيته المتواضعة ) وان كانت بسرية شديدة بل واحيانا كان يقتصر ذلك على مجالس العزاء النسائية التي تحييها عماتي في غفلة عن عيون البعثيين ورقابتهم وكان دور جدي حينها الجلوس في باب الدار لمراقبة وترصد اﻻ-;---;--حداث خوفا من احد الجيران من البعثيين الذي كان شديد الحرص على مضايقتنا ورفع التقارير الى مسؤوليه عنا وعن التزامنا بالخط الحسيني . كنت وانا لازلت فتى يافعا اترصد وجوه النساء من جيراننا وكنت المح بين تلك الوجوه نساء اعرف جيدا انهن من زوجات واخوات وامهات البعثيين ورجال اﻻ-;---;--من في منطقتنا وكان من بين من يحضرن مجالسنا الحسينية نساء سنيات بل وصابئيات ومسيحيات وكان مايثير استغرابي وتعجبي حضور نساء من جيراننا كنت اراهن صباحا وهن يخرجن الى عملهن "سافرات ومتبرجات" وهو في مفهومي وتربيتي التي نشأت عليها يعتبر من الكفر اﻻ-;---;--عظم ... استغرابي هذا كنت اهرع به مسرعا الى جدي الذي كنت ارى الدموع الغزيرة تنهال على وجهه القمري الابيض وهو يستمع من مذياعه اﻻ-;---;--خضر الى "نواعي "لم اكن اعرف من اين تبث !! فأسئله ... جدي ... هاي ام فلان مرت رفيق فلان كاعده بالعزه وتبجي على الحسين جا هو رجلهه مو حزبي ويكره الحسين ... وكان يجيبني بصوته الدافيء ... لا جدي ماكو واحد يكره الحسين .. زين جدي .. وهاي ام فلان مو صبه شجابهم على الحسين وهذول المسيح براس الشارع امهم وبناتهم يلطمن جوه وفلانه المعلمة تطلع بلايه عبايه ولا ححاب الصبح تروح للدوام ..شو لابسه اسود ومتكبعه وهم تبجي وتلطم كنت في كل عام "حتى بلغت اشدي " اكرر نفس اﻻ-;---;--سئلة على مسامع ذلك الرجل الحسيني منهجا وخلقة واخلاقا وكان هو رحمه الله يكرر علي ذات الجواب الذي كان يزيد من حيرتي ولا يشبع تلهفي لفهم ذلك السر العظيم "جدك الحسين يحب الكل شيعي سني مسلم مسيحي بعثي شيوعي ولانه يحب الكل فالكل يحبه " وكنت ارد بعفوية حتى هذوله الي يوميه يدكون بابنه وياخذوك علمود العزة فيرد جدي "اي حتى هذول " ...... انقطعت تلك المجالس الحسينية عن دارنا بعد رحيل راعيها ومنع عمي اﻻ-;---;--كبر باﻻ-;---;--تفاق مع والدي عماتي عن اقامة المجالس الحسينية النسائية خوفا عليهن من بطش البعثيين ورجال اﻻ-;---;--من الذين كانو يتربصون تلك المجالس وينقضون عليها كالكلاب المسعورة دون حرمة لدين او مذهب او دار او امرأة وكنت ربما الوحيد من احفاد ذلك الرجل الحسيني استذكر كل عام تلك الذكريات التي لم تغادر ذهني منذ عقود فاسترجعها رحمة ونورا ودعاءا لهم . كان عزائي بعد تلك السنين اقيمه لوحدي مستأنسا باشرطة الكاسيت التي كنت احصل عليها بشق اﻻ-;---;--نفس فقد كان الحصول علىشريط لقصيدة او مجلس حسيني مهمة صعبة تستدعي اﻻ-;---;--نتباه والحذر والترقب فانت مشكوك فيك عند طلبك لنسخة منها من اي شخص وهو مشكوك فيه عندك حتى تبلغ باﻻ-;---;--مان محلك .. لكني ومثلي الكثير كنا نحصل على بعض مانريد وان توقعنا القاء القبض علينا في اي لحظة ... وهكذا كنت احيي ذكرى عاشوراء وحيدا متخفيا منزويا في احدى غرف داري استمع الى تلك القصائد المبكية الشجية الحزينة .. وكنت ابكي بحرقة والم كلما استمعت الى قصيدة او لطمية اتذكر اني سمعتها في دار جدي رحمه الله ... لذلك كان بحثي عن قصيدة "ياحسين بضمايرنا "التي طالما سمعتها في طفولتي وانا اجلس بجوار جدي له اكثر من معنى ... وقد اعياني البحث طويلا وفي مرة كنت جالسا مع رجل من معارفي يساري الهوى بل "ملحد"العقيدة ولم يدر في خاطري يوما ان اجد تلك القصيدة عنده .. حين حدثني وهو يعرف ميولي الدينية عن عظمة كلمات تلك القصيدة الخالدة استغربت من حفظه لكلماتها وطريقة اداءها فما كان منه اﻻ-;---;-- ان ذهب الى داخل داره واحضر شريطا للقصيدة ثم طلب مني الذهاب الى احد الثقاة لتسجيلها خرجنا من داره وانا لا تسعني فرحة من وجد كنزا قديما .. وخبأ الرجل الشريط بين اغراض كان يحملها ... لكن المفاجأة التي لم نكن نتوقعها هو وجود محموعة من جلاوزة البعث واﻻ-;---;--من عند مدخل الشارع الذي نسكنه ... كنت دائما اصر على عدم القاء التحية عليهم رغم انهم يعرفونني جيدا ويعرفون ميولي السياسية والدينية التي يعتبرونها مناوئة لهم ... وربما كان هذا السبب في مناداتهم علي ... ها سيد وين ؟! تعال يابه شدعوه السلام لله ها العفو اعتذر ما منتبه هههه يمعود سيد هاي احنا هلكثر وما شفتته لم اجد جوابا ارد به عليهم انتزع احدهم وهو جارنا الرفيق الذي كان فيما مضى يراقب دارنا قبل رحيل جدي ما يحمل صاحبي من اغراض فوجد الشريط شنو هذا الشريط ... اكيد اﻻ-;---;--طلال مال ام كلثوم لا رفيق .... هذا شريط تسجيل عائلي ... رد صاحبي امر هذا الرفيق احدهم بان يفحصه بمسجلة السيارة التي كانت بصحبتهم وماهي اﻻ-;---;-- لحظات حتى بدأت البوكسات والجلاليق والضربات تنهال علينا ثم .. اقتادونا الى دائرة اﻻ-;---;--من كأننا قدنا ثورة عسكرية ضد صدام .. ....... بعد سنوات من سقوط نظام البعث المقبور وكنت في زيارة ومعي صاحبي "اليساري الملحد" الذي طالما شاركني في رحلتي المستمرة الى مرقد سيد الثائرين لمحت من بعيد الرفيق الذي كان السبب في القاء القبض علينا لاننا كنا نحوز شريط كاسيت معادي لمنهج البعثيين !! كان الرجل قريبا من شباك الضريح وهو يبكي او ربما ظننته هكذا ! قمت دون ان يشعر صاحبي واقتربت منه وربت على كتفه بلطف فاستدار نحوي ... ارتبك الرجل حين راني خلفه واصفر وجهه ... في تلك اللحظة تخيلت وجه جدي رضوان الله عليه وتذكرت كلماته "الحسين محد يكرهه لانه مايكره احد " فابتسمت في وجهه وقلت له "زيارة مقبولة ... غفر الله ذنبك " ثم تركته واستدرت راجعا الى حيث يجلس صاحبي وحين جلست نظرت باتجاهه فلم اجد له اثرا .
|