وزاده بسطة في العلم والجسم |
السرد الذي نجده على لسان بعض المحققين الذين جعلوا من الاستقامة رديفاً للخلافة يمكن أن يكون من الأخطاء الشائعة التي لا تخلو منها كتب التفسير والحديث، والسبب في ذلك يعود إلى ظن هؤلاء العلماء بعدم صلاحية الإنسان لخلافة الأرض دون التفريق بين الخلافة بمعنى الحاكمية وبين الخلافة التكوينية التي تتعاقب بموجبها الأجيال التي تعمر الأرض بما هي أرض صالحة للعيش، وهذا أقرب للاعتراض وإن شئت فقل الاستفسار الذي صدر من الملائكة حين أرادوا تبديل الإنسان بمخلوق آخر أو جعلهم خلفاء في الأرض مع فقدهم للمهمة التي جعلها الله تعالى في الإنسان دونهم، ولهذا أجابهم سبحانه بقوله: (إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة 30. وذلك رداً على قولهم: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) البقرة 30. وفي رده تعالى إشعار يفوق عملية سفك الدماء، وإن كان ذلك ملازماً للحياة التي لا تتم على الأرض إلا بالاجتماع والتزاحم الذي يؤدي إلى الاختلافات.
ولهذا كان للاتجاهات البينية أثراً فاعلاً في ظهور التقسيمات التي توجد داخل النفس البشرية المتمثلة في التراكيب الروحية والجسدية، إضافة إلى التمرد والطغيان الذي يتولد من القوى الغضبية والشهوية وغيرهما من القوى التي تجعل الإنسان مسيراً لها إن لم يحسن التحكم بها، وهذه التقسيمات إما أن يكون منشأها ملازماً لتلك القوى وما تفرضه على الإنسان وإما أن يعود على الإنسان بالنفع بسبب توجيهها إلى طرق الكمال التي يسعى إليها.
وبناءً على ما مر يظهر أن الله تعالى لم يأمر الملائكة بالسجود لآدم إلا في الوقت الذي نفخ فيه من روحه، وهذا من أهم الأسباب التي يكمن فيها رقي الإنسان وتفضيله على كثير ممن خلق الله تعالى بسبب أن نفخ الروح فيه لا يعني ايجاد الحياة المادية له، لأن الأخيرة يشترك فيها مع جميع المخلوقات، أما تلك النفخة الخاصة لا بد أن تكون أشبه بإنزال الروح المعنوية التي تفتقر إليها الكائنات الأخرى.
ومن هنا نعلم مدى الفرق بين أتباع الروح المعنوية وبين أتباع الروح المادية الذين وصفهم القرآن الكريم بأسفل سافلين، كما في قوله تعالى: (ثم رددناه أسفل سافلين) التين 5. أو الذين عبر عنهم بمصطلح الموت، كما في قوله: (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) الأنعام 122.
وبهذا تظهر النكتة التي يشير فيها القرآن الكريم إلى خلود الإنسان وركونه إلى الأرض، كما في قوله تعالى: (مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) التوبة 38. وكذا قوله: (ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) الأعراف 176. واستعارة الأرض هنا لحب الدنيا من المحسنات التي استعملها القرآن الكريم، كما قابل ذلك بالصعود المعنوي الذي ذكر في قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) فاطر 10. حيث لا صعود ولا رفع على حقيقته فتأمل.
ولهذا فإن الإنسان المعتمد في الخلافة الشرعية يجب أن يكون على مقربة من الرقي والسمو، وهذا هو الاصطفاء الذي يشير إليه القرآن الكريم في متفرقات آياته كاصطفاء الأنبياء والخلفاء، الذي أشار إليه تعالى بقوله: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) الأنبياء 105. وكذا قوله: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) القصص 5. وقوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً) النور 55.
أما الخلافة العامة التي يراد منها خلافة الإنسان بما هو إنسان دون النظر إلى ما يحمله من روحانيات وعلوم، فقد بينها القرآن الكريم في قوله تعالى: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) يونس 14. وكذا قوله: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون) الأعراف 69. وقوله: ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض) النمل 62.
وبهذا يتحصل أن المصطلحات التي تتكون منها الحاكمية لا بد من اشتمالها على بعض الفقرات التي تؤكد على توجيه المجتمعات إلى الطرق التي يرتضيها الحاكم، دون النظر إلى نوعية الحكم، وتترتب على تلك المصطلحات بعض المميزات التي تختلف من مجتمع إلى آخر، ويكون أصلها قد استمد قوته سلفاً عن طريق الرؤية المعنوية أو ما يقابلها من رؤى كالمادية مثلاً، دون النظر للأطر الأولية التي لا يمكن للإنسان أن يكتشف أسرارها، اللهم إلا ما يظهر أمامه من أمارات دون أن يرتب عليها أي نوع من السلوك الشرعي في شخص من يتولى الإمارة.
ولهذا انتفى مفهوم الغرابة الذي يترتب عليه ما يقوم به بعض الحكام من تدمير يفوق الكوارث الطبيعية، وإن شئت فقل هو قياس مع الفارق، وهذا الأمر ليس وليد حالة تأريخية فريدة من نوعها أو منهج معين بل هو أشبه بالطريقة أو السنة المتجددة التي تمر عبر العصور، والقرآن الكريم يؤكد على هذه الحقيقة وبطرق مختلفة، كما حكى تعالى ذلك عن قوم نوح في قوله: (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) هود 27. وهذا يدل على أن غير الأراذل حسب نظرتهم الخاطئة، هم من يتولى أمرهم ورعايتهم وقد ترسخت هذه الطريقة في أفكارهم، حتى انتقلت من جيل إلى آخر، وصولاً إلى أصحاب التابوت الذين أرادوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكاً، وكانت هذه الواقعة من بعد موسى، كما بينها تعالى في قوله: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً...... إلى قوله...... قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم) البقرة 246-247. هذا ما لدينا وللمفسرين في الآيتين آراء:
الرأي الأول: قال أبو حيان في البحر المحيط: لما طلبوا من نبيهم أن ينهض لهم ملكاً، ورتبوا على بعثه أن يقاتلوا وكانوا قد ذلوا، وسبي ملوكهم، فأخذتهم الأنفة، ورغبوا في الجهاد، أراد أن يستثبت ما طلبوه من الجهاد، وأن يتعرف ما انطوت عليه بواطنهم، فاستفهم عن مقاربتهم ترك القتال، لأنه طلب ثأر، ومترج أن يكون له الظفر من الله تعالى، لأنهم علموا أن ما أصابهم إنما كان بذنوبهم، فلما أقلعوا وتابوا، ورجعوا لطوع الأنبياء، قويت آمالهم بالنصر والظفر، قيل: وكان النبي قد ظن منهم الجبن والفشل في القتال، فلذلك استفهم، وليبين أن ماظنه وتوقعه من ذلك يكون منهم، وكان كما توقع.
الرأي الثاني: يقول الالوسي في روح المعاني: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل) الملأ من القوم وجوههم وأشرافهم وهو اسم للجماعة لا واحد له من لفظه، وأصل الباب الاجتماع فيما لا يحتمل المزيد، وإنما سمي الأشراف بذلك لأن هيبتهم تملأ الصدور أو لأنهم يتمالؤن أي يتعاونون بما لا مزيد عليه، ومن (للتبعيض) والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالاً من الملأ (من بعد موسى) أي من بعد وفاته (عليه السلام) و(من) للابتداء وهي متعلقة بما تعلق به ما قبله ولا يضر اتحاد الحرفين لفظاً لاختلافهما معنى (إذ قالوا لنبي لهم) قال أبو عبيدة: هو أشمويل بن حنة بن العاقر وعليه الأكثر، وعن السدي أنه شمعون وقال قتادة: هو يوشع بن نون لمكان (من بعد) من قبل وهي ظاهرة في الاتصال، ورد بأن يوشع هذا فتى موسى (عليهما السلام) وكان بينه وبين داود قرون كثيرة والاتصال غير لازم و(إذ) متعلقة بمضمر يستدعيه المقام، أي: ألم تر قصة الملأ أو حديثهم حين قالوا (ابعث لنا ملكاً) أي أقم لنا أميراً وأصل البعث إرسال المبعوث من المكان الذي هو فيه، لكن يختلف باختلاف متعلقه، يقال: بعث البعير من مبركه إذا أثاره، وبعثته في المسير إذا هيجته، وبعث الله الميت إذا أحياه، وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالارتحال.
الرأي الثالث: قال الطوسي في التبيان: الملأ: الجماعة من الناس يجتمعون للمشاورة، والجميع الاملاء قال الشاعر:
وقالت لنا الاملاء من كل معشر......وخير أقاويل الرجال سديدها
ثم يضيف: وأكثر النحويين على الجزم في (نقاتل) مع النون وقالوا لا يجوز غير الجزم، وأجاز الزجاج الرفع على ضعف فيه على تقرير: فانا نقاتل في سبيل الله، ولو كان بالتاء لجاز الرفع على أن يكون صفة للملك، والجزم على الجواب، كما قال: (فهب لي من لدنك ولياً يرثني) بالجزم، والرفع، ولو كان (نقاتل معه) لحسن الرفع أيضاً لعائد الذكر، ولا يجوز أن تقول: الذي مررت زيد، تريد به، ودخلت (أن) في قوله: (مالنا ألا نقاتل في سبيل الله) واسقطت في قوله: (وما لكم لا تؤمنون بالله) لأحد ثلاثة أشياء:
أولها: دخلت (أن) لتدل أن فيه معنى: ما منعنا من أن نقاتل، كما دخلت الباء في خبر هل لما تضمنت معنى: ما، قال الفرزدق يهجو جريراً، ويذكر أن أباه كان ينكح اتانا:
يقول إذا اقلولى عليها وأقردت......ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم
معنى اقلولى: علاها، ومعنى أقردت: ذلت، وأما سقوطها في الموضع الآخر، فعلى الأصل كأنه قيل: مالنا غير مقاتلين، كما قال: (فمالهم عن التذكرة معرضين). انتهى.
ومعنى اتانا: أنثى الحمار.. ومن أراد النقاط الأخرى فليراجع تفسير التبيان.
|