لم تتوقف الدعوات لتشكيل أقاليم في العديد من المحافظات العراقية ومنذ اقرار الدستور العراقي الجديد عام 2004 والذي نص في مادته “113” على أن العراق دولة اتحادية تتكون من عاصمة وأقاليم. كما وضمن الدستور حق كل محافظة او اكثر في تشكيل إقليم بناءا على طلب مقدم لتنظيم استفتاء عليه وفقا للشروط التي وردت في المادة” 119” منه والتي نصت على تقديم طلب من ثلث اعضاء المجلس المحلي في كل محافظة تنوي تشكيل إقليم, وكذلك بطلب عشر الناخبين في كل من تلك المحافظات.
وخلال السنوات العشر الماضية تنوعت الدعوات الى تشكيل أقاليم ,فهناك دعوات صدرت لتشكيل أقاليم على أسس طائفية كالدعوة لتشكيل اقليم الجنوب الذي يضم المحافطات الشيعية او إقليم المحافطات الغربية التي تضم أبناء السنة. فيما صدرت دعوات لتشكيل اقاليم من عدة محافطة كاقليم الفرات الأوسط والذي يضم عددا من المحافطات منها الحلة والديوانية والسماوة أو الدعوة لتشكيل اقليم من المحافطات النفطية المتجاورة كالبصرة والعمارة والناصرية , او تشكيل أقليم للتركمان في شمالي العراق تحت مسمى تركمن الي. كما وصدرت دعوات لتشكيل اقاليم من محافظة واحدة كالدعوة المتجددة لتشكيل اقليم البصرة.
وتقف وراء تلك الدعوات أسباب وخلفيات متنوعة منها طائفية ومنها قومية ومنها إدارية ومنها تهدف لرفع الظلم والحيف الواقع على بعض المحافطات وفي طليعتها محافطة البصرة. وكان لتجربة إقليم كردستان الناجحة الأثر الكبير في إطلاق الدعوات لتشكيل الإقاليم واغراء العديد من المحافطات لتكرارها.
واما فيما يتعلق بالدعوة المتجددة لتشكيل إقليم البصرة فلاتقف دوافع طائفية او قومية وراء إطلاقها . فالبصرة معروفة بتنوعها الديني والمذهبي والقومي وبتسامح وطيبة اهلها وببعدها عن مختلف أنواع التعصب الديني. اذ يقطنها الشيعة والسنة والمسيحيون والصابئة والأرمن وقد عاشت هذه المكونات جنبا الى جنب مع بعضها الآخر بسلام وامن متحابين.
ولازلت أذكر في اواخر الستينات واوائل السبعينات من القرن الماضي وكنا نعيش حينها في محلة القبلة وسط البصرة, ذلك التنوع في تلك المنطقة. وكان الصف الواحد من مدرستها زاخرا بمختلف انواع الفسيفساء العراقي. وحتى ان كنائس البصرة كانت تفتح ابوابها لتعليم البصريين اللغة الأنكليزية وبغض النظر عن انتمائاتهم الدينية, ولي الفخر في اني تعلمت ابجديات اللغة الانكليزية في كنيسة الأرمن في منطقة السيف عندما كنت طفلا في روضتها.
تحملت البصرة ودفعت ثمنا كبيرا لمغامرات النظام الصدامي وحروبه الهمجية , فقد كانت على خط المواجهة أيام الحرب العراقية الإيرانية وكنت طالبا حينها في كلية الهندسة الواقعة في التنومة وعلى مقربة من الحدود مع ايران. حيث تحولت المنطقة الى ساحة حرب كنا نشاهدها من فوق اعلى البنايات في الجامعة. فيما تعرضت العديد من مناطقها الى الدمار كمدينة الفاو.
ثم جاءت حرب الخليج الثانية لتزيد الطين بلة حيث تحولت البصرة الى ساحة معارك تعج بالآليات العسكرية المحروقة, وقنابل الحلفاء التي يعتقد وعلى نطاق واسع استخدامها لليورانيوم المنضب الذي ادى الى ارتفاع نسبة الإصابة بالسرطان بين ابناء المحافطة. لقد خلفت تلك الحروب دمارا على مختلف الصعد. ومنها تدمير الملايين من أشجار النخيل التي طالما تغنى بها شاعر ابي الخصيب بدر شاكر السياب الذي يقف تمثاله شامخا على ضفة شط العرب. وهناك الدمار على صعيد البنية التحتية وعلى صعيد المشاريع الإعمارية حيث يمكن تصور حجم الدمار الواقع على مدينة كانت ضحية لحربين خلال فترة عشرة اعوام.
والبصرة حملت راية النضال ضد النظام الصدامي وقدمت قوافل من الشهداء في الثمانينات وابان الإنتفاضة الشعبانية حيث امتلأت طرقاتها بجثث الشهداء الذين أرداهم نظام البعث بعد قمعها. ولذا فكان من المؤمل وبعد سقوط النظام الصدامي أن تعامل البصرة معاملة خاصة فهي المدينة الوحيدة في العراق التي شهدت حربين على حدودها فضلا عن كونها الرئة التي يتنفس عبرها العراق من خلال منفذها البحري وفوق كل ذلك فهي مصدر الخيرات للعراق لما احتوته من ثروات نفطية هائلة.
الا ان البصرة لم تنل سوى التهميش والإهمال وطوال السنوات الماضية في الوقت الذي لعب لعب فيه الفاسدون بخيراتها . إذ لم تشهد المدينة اي تحسن في اوضاعها وعلى مختلف الصعد, وفوق كل ذلك وبالرغم من انها واحدة من اكبر محافطات العراق وبانها حملت راية النضال ضد النظام الصدامي الا انها عانت من سياسات الإقصاء والتهميش طوال السنوات الماضية ولم تنل استحقاقها السياسي الذي يتناسب مع حجمها ومع تضحياتها, وهي التي تزخر بالكفاءات.
لكل تلك الأسباب انطلقت ومازالت تنطلق الدعوات لتشكيل إقليم البصرة. اذ يعتقد الكثير من البصريين بانه الحل الأمثل لإنصاف البصرة واعادة اعمارها. فهذه المدينة بحاجة الى برنامج اعمار شامل يشرف عليه أبناؤها وبعيدا عن إدارة المركز التي يعتريها الفساد والجهل والبيروقراطية فأهل مكة ادرى بشعابها, والبصريون أقدر على إعادة بناء مدينتهم ووضعها في مصاف المدن المتقدمة في العالم, خاصة وأن جميع الموارد اللازمة لتحقيق ذلك متوفرة , وكل ذلك متوقف على إرادة البصريين الذين لن يتركوا مدينتهم تصبح مصداقا للمثل القائل(كالعيس في البيداء يقتلها الظمى والماء على ظهورها محمول).
|