من سرجون إلى القديس يوحنا الدمشقي تاريخ الإساءة للرسول وأهل بيته عليهم السلام |
نشرت في العام الماضي سلسلة مقالات بعنوان "ما أوذي نبي مثلما أوذيت" وهي في الأصل مسودة سيناريو فلم وثائقي بنفس العنوان لم تتح الفرصة لإنتاجه، وقد ذكرت في الحلقة الثانية من السلسلة يوحنا الدمشقي باعتباره أحد المسيحيين الذين أساؤوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وحرض ضده، وقد أشرت إشارة بسيطة إلى العلاقة بين سرجون صاحب مشورة يزيد ويوحنا الدمشقي، واليوم أعيد طرح الموضوع بتفصيل أكثر وبعنوان مستقل بمناسبة وفاة رسول الله صلى الله عليه وقربها من مناسبة الأربعين.
من هو سرجون ؟
هو سرجون بن منصور المسيحي ، أو سرجون بن منصور الرومي وفقاً للمؤرخين المسلمين، التغلبي أو الكلبي وفقاً لمؤرخين أو الملكي السرياني وفقاً لآخرين.
والده منصور كان يشغل منصِب مدير المالية في الدولة الرومانية، وعيّنَه الإمبراطور البيزنطي موريس حاكم دمشق وأبقاه هرقل في منصبِه بعد اجتياح الفرس. يقول الأب لامنس إن المنصور-أو منصور- اعتزل في دير القديسة كاترينا في سيناء بعد تسليم دمشق، وألّف هناك كتاب «شرح الزامير» المنسوب إلى أنستانيوس السينائي. بل يقول أن منصور هو نفسه أنستانيوس السينائي بعد تغيير اسمه كنسياً، وأنه هو الذي كتب شرح "المزمور السادس".
بعد فتح الشام واستلام يزيد بن أبي سفيان لولاية الشام عين منصور هذا بمنصب خازن بيت المال أو الكاتب أو المستشار أو كل ذلك على اختلاف بين المؤرخين، وبعد وفاة يزيد بن أبي سفيان استلم معاوية بن أبي سفيان ولاية الشام وبقي منصور في منصبه حتى وفاته ليورث منصبه لولده سرجون الذي عُرف بأنه مستشار معاوية الخاص وكاتبه (وفقاً لأبن عساكر) وكاتبه صاحب أمره(وفقاً للطبري: تاريخ الطبري ج4 ص243) ونديمه.
بعد وفاة معاوية وتسلم يزيد الخلافة بالقهر بقي سرجون على مكانته وصار صاحب مشورة يزيد الخاص ونديمه !
يقول البلاذري في أنساب الأشراف ج5 ص354 "وقال المدائني : كان على شرط يزيد حميد بن حريث بن بحدل وصاحب امره سرجون بن منصور ...".
يقول عنه ابن عساكر في تاريخ دمشق ج20 ص161 " سرجون بن منصور الرومي كاتب معاوية وابنه يزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان ذكره أبو الحسين الرازي في تسمية كتاب أمراء دمشق وذكر أنه كان نصرانياً فأسلم وهو الذي ينسب إليه جبر بن سرجون عند باب كيسان ويقال له سرحة وله عقب وكان يقال إن الكنيسة التي خارج باب الفراديس بحذاء دار أم البنين محدثة بنيت بعد الفتح لسرحة كان كاتبا لمعاوية بن أبي سفيان ثم أسلم على يديه وبقيت الكنيسة".
وسنعرف بعدها إن كان قد أسلم فعلاً!
علاقة سرجون بيزيد أصبحت أقوى من علاقته بمعاوية وذلك لأن معاوية كان صاحب دهاء في السياسة وكان في عمر مقارب لعمر سرجون بينما يزيد شاب لا يفقه في السياسة شيء. ويبدو إن العلاقة تعدت إلى التواصل العائلي أكثر إذ كان هناك ميل لدى حكام بين أمية إلى أن يعهدوا بمهمة تثقيف أبنائهم لمسيحيين! يقول يعقوب الرهاوي إن الإكليركيين قاموا بمهمة التعليم والتهذيب في عائلات الأمراء الإسلامية، كما يُقال أن يزيداً نفسه، وَكَلَ أمر تثقيف ابنه خالد إلى الراهِب المسيحي مريانس، وإن عبد الملك عهد إلى أثناسيوس الرهاوي المهمة نفسها.
ويقول نبيل سلامة في دراسة عن يوحنا الدمشقي منشورة على موقع أكتشف سوريا : "إن ميل معاوية إلى المسيحيين وعشرة ابنه المسيحية تحملاننا على الاعتقاد أن يزيداً وليّ العهد ويوحنا بن سرجون وزير المالية نهلا ثقافة مشتركة في بعض المواد. وهكذا استفاد يزيد من تعليم أساتذة الدمشقي واقتبس عنهم الثقافة العلمية التي جعلَت التقليد يلقّبه بالمهندس. أما يوحنا فكان يتحسّس الشعر ويتذوّقه، وتهتز مشاعره لدى احتكاكه بشعراء الصحراء، وقد تأثرت بعض تآليفه بهذا الاحتكاك ولاسيما أناشيده وقوانينه، وقد اكتسب من تربيته الثقافية المشتركة معرفة القرآن الكريم والديانة الإسلامية!!
ما علاقة سرجون بمقتل الإمام الحسين عليه السلام؟
يقول ابن مسكويه الرازي في تجارب الأمم ج2 ص104: " كتب له –أي ليزيد-على ديوان الخراج سرجون بن منصور ، وهو الذي أشار عليه ، لمّا بلغه مسير الحسين إلى الكوفة بأن يولَّى عبيد الله بن زياد". و يقول العلامة باقر شريف القرشي في كتابه حياة الحسين ع ج2 ص354 عند الحديث عن استشارة يزيد لسرجون وتحت عنوان استشارته لسرجون وينقل نصها عن تاريخ أبن الأثير ج3 ص 268:
وأحاطت الهواجس بيزيد ، وشعر بالخطر الذي يهدد ملكه فاستدعى سرجون الرومي ، وكان مستودع أسرار أبيه ، ومن أدهى الناس ، فعرض عليه الامر ، وقال له : " ما رأيك؟ إن حسيناً قد توجه إلى الكوفة ، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين ، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيء ، فما ترى من استعمل على الكوفة ؟ "
وتأمل سرجون ، واخذ يطيل التفكير فقال له : " أرأيت أن معاوية لو نشر أكنت آخذا رأيه ؟ " فقال يزيد : نعم
فاخرج سرجون عهد معاوية لعبيد الله بن زياد على الكوفة ، وقال :" هذا رأي معاوية وقد مات ، وقد أمر بهذا الكتاب ".
وفي تحليله لدوافع سرجون يكمل القرشي قائلاً: " أما دوافع سرجون في ترشيح ابن زياد لولاية الكوفة فهي لا تخلو من أمرين :
1 - إنه يعرف قسوة ابن زياد وبطشه وأنه لا يقوى أحد على اخضاع العراق غيره فهو الذي يتمكن من القضاء على الثورة بما يملك من وسائل الارهاب والعنف .
2 - انه قد دفعته العصبية القومية لهذا الترشيح فإن ابن زياد رومي.
من هو القديس يوحنا الدمشقي؟
يوحنا الدمشقي هو منصور بن سرجون بن منصور الذي تحدثنا عن أبيه وجده -وعنه قليلاً- وعن علاقتها بالدولة الأموية، وذكرنا إنه تربى مع يزيد.
وُلِدَ يوحنا في دمشق. ولُقب بالدمشقي إشارة إلى مسقط رأسه، ولُقبه المسيحيون بدفاق الذهب أو ناقل الذهب، وهو اسم لنهر بردى، نهر مدينته، لما تحوي مؤلفاته من كنوز روحية ثمينة وفقاً لرأيهم. وقد تم تحديد مولده بين سنتي 670 و680 م.
قد يكون حمل اسمين أحدهما يوناني (يوحنا) والآخر عربي (منصور) وقد دعاه ابن العبري (كوريني بن منصور)، أما الكتبة الأقباط فدعوه (ينَح بن منصور) أما أبو الفرج الأصفهاني فاكتفى بتسميته (ابن سرجون). تربى تربية مسيحية إذ اختار له أبوه-الذي نقلنا عن ابن عساكر إنه يقول إنه أسلم!- معلماً أسيراً مسيحياً من جزيرة صقلية اسمه "قزما" بحسب شهادة ميخائيل الراهب ومن نقل عنه.
وكان ليوحنا أخ بالتبني اسمه "قزما" أيضاً وتولى تربيتهما دينياً معاً "قزما الصقلي".
يقول نبيل سلامة : " نشأ يوحنا ويزيد بن معاوية معاً، وتعلّق أحدهما بالآخَر. وعند انعتاقهما من قسر المربّي، كانا يتردّدَان تارة إلى قصر سرجون في بستان القط، وتارة إلى أحد الأماكن المحبّبَة إلى يزيد، إلى قرى ضاحية دمشق الخلاّبَة: دير مرّان، جلّق (الكسوة) ماطرون، وتارة إلى بيت الراس، ولا سيما إلى البادية حيث كانا يطلقان العنان لتسليات حفظ لنا المؤرّخون المسلمون ذكرها."!!
شغل يوحنا منصباً رفيعاً في الإدارة الأموية بعد وفاة أبيه في نهاية خلافة عبد الملك بن مروان. هذا ما أثبته ميخائيل الراهب واضع سيرته، والتراث الخاص بسِيَر القديسين، وبعض المؤرّخين المسلمين. وكتَبَ المؤرّخ ميخائيل: "وبعد ذلك توفي منصور (أي سرجون) وصار ابنه كاتباً لأمير البلد، متقدماً عنده، صاحب سرّه وجهره وأمره ونهيِه".
وإذا صحّ أن سليمان بن سعيد مارس حقاً إدارة المالية وفقاً للمؤرخين المسلمين، فيكون الدمشقي قد شغل وظيفة أمين السر الخاص بالخليفة الأموي.
في خلافة عمر بن عبد العزيز أو هشام بن عبد الملك ، استقال يوحنا من وظيفته ووزّع أمواله على المحتاجين والفقراء، وابتعد إلى الأبد عن ذلك المحيط الذي يذكّره بأيام شبابه، وترَف الحياة السهلة، وذهب وقرع باب دير القديس سابا القريب من القدس.
وهناك رأي آخر بخصوص استقالته حيث تقول بعض المصادر (ننقله عن موقع الدكتور جوزيف زيتون بتصرف يسير) بأنه عندما استلم الملك لاون الحكم في القسطنطينية وأثار حرباً ضد الأيقونات، فأمر برفعها من الكنائس وأخذ يضطهد المؤمنين بها، سمع يوحنا، وهو في مدينة دمشق عاصمة الدولة الأموية، بهذه الموجة أنبرى للرد على كل من يهاجم الأيقونات واصفاً إياه بالمهرطق وبأنه يحارب تجسد ابن الله من العذراء، وتألّه البشر بالنعمة الإلهية!
واعتمد كثيراً على قول القديس باسيليوس الكبير: "إن إكرام الأيقونة يعود إلى عنصرها الأول"!
ولما وصل الخبر إلى الملك المضطهد الأيقونات، أراد أن ينتقم من يوحنا فدعا إليه بعض الخطاطين ليقلّدوا خطَه-وفقاً للمصادر- برسالة مزورة ملفّقة كأنها على لسان يوحنا يعرب للإمبراطور لاون عن استعداده للتعاون معه وتسليمه مدينة دمشق، وارفقها برسالة للخليفة يظهر فيها خيانة عامله منصور بن سرجون مظهراً حسن نظرته للخليفة والبقاء على الود والاحترام وكسر حالة الحرب بين الإمبراطورية الرومانية والخلافة الأموية! لما استلم الخليفة هذه الرسالة أسرع باستدعاء منصور (يوحنا)، فأراه الرسالة قائلاً له: “أتعرف يا منصور هذا الخط ومن كتبه؟”
فأجاب يوحنا: "أيها الأمير كأن الخط مشابه لخطّي وهو ليس خطّي وألفاظه ما نطقت بها شفتاي ولم أرَ هذا الكتاب إلا في هذه الساعة الحاضرة".
لم يصدقه الخليفة، فأمر بقطع يده اليمنى. وتم تنفيذ الحكم في الحال، وعلّقت يده في وسط مدينة دمشق إظهاراً لخيانة منصور، عند المساء طلب منصور يده المقطوعة من الخليفة فأعطاه إياها فأخذها وبدأ يصلي أما أيقونة للسيدة العذراء لتظهر براءته وكعلامة على ذلك تعيد له يده المقطوعة!
بقي يتوسل حتى تعب ونام وفي المنام رأي السيدة العذراء وعندما استيقظ وجد يده قد أرجعت له مع بقاء خط احمر علامة على قطعها، سمع الناس بذلك وسمع الخليفة فاستدعاه واستفسر من الأمر وعلم إنه ظلمه فأعاد له أمواله وأراد إرجاعه لمنصبه ولكنه رفض ووزع أمواله على الفقراء وذهب إلى دير القديس سابا كما قلنا سابقاً.
كيف أساء لرسول الله صلى الله عليه وآله وما موقف المسيحيين منه حالياً؟
تميز يوحنا الدمشقي بمؤلفاته اللاهوتية الفلسفية العديدة ودفاعه الشديد عن العقائد المسيحية، وعن تكريم الأيقونات أي صور المسيح والعذراء وكان ذلك سبباً في عده من المحرومين في المجمع الكنسي سنة 754م الذي تم فيه رفض تكريم الايقونات وعُبر عنه في حينها بـ"ذا الاسم المشؤوم الذي يُعلم الآراء المحمدية"، واعيد له الاعتبار في المجمع المسمى المجمع النقاوي الثاني سنة 787م والذي أجاز تكريم الايقونات وعُد يوحنا الدمشقي ضمن مقررات ذلك المجمع ممن سُمي بأبطال الحقيقة، يعتبر يوحنا الدمشقي آخر آباء الكنيسة الشرقية بإجماع الباحثين وقد شكلت مؤلفاته مرجعاً مهماً لجميع لاهوتي القرون الوسطى حتى أن توما الإكويني يستشهد به في مؤلفاته، كما ألف عددًا من الترانيم الكنسية التي لا تزال مستعملة في طقوس الكنيسة البيزنطية حتى اليوم. أعتبر يوحنا الدمشقي في كتابه المسمى (الهراطقة) الإسلام نوعاً من المسيحية المهرطقة، وفي الكتاب المذكور، سرد الدمشقي قائمة من مائة هرطقة ظهرت بين القرن الأولوالقرن السابع، ونال الإسلام الترتيب مائة في تصنيف الدمشقي. كما أدعى في كتابه بأن الراهب بحيرى قام بمساعدة النبي محمد، وكذلك فعل ورقة بن نوفل الذي كان قس المسيحيين العرب في مكة، وحسب رواية الدمشقي فإن ورقة كان يعمل مترجماً لبعض المؤلفات المسيحية التي كانت توضع غالباً إما باللغة السريانية أو القبطية إلى اللغة العربيةومن ضمنها بعض الأناجيل المنتحلة، وهذا ما يفسر حسب رأيه سبب التشابه بين القرآن وعدد من القصص الواردة في العهد الجديد أو الأناجيل المنتحلة.
كلام الدمشقي استند الى جملة من المرويات غير المعتبرة وأضاف عليها من عنده ، وجاء كتابه كما يبدو ردة فعل لتهمته بأنه يعلم الآراء المحمدية وقد عُد بعد تأليفه من ابطال الحقيقة!
وتعد كتابات يوحنا الدمشقي أو القديس يوحنا الدمشقي وفقاً للكنيسة من أوائل الكتابات التي أساءت لرسول الله صلى الله عليه وآله وحاولت تشويه صورته، ولا عجب في ذلك فهو سليل العائلة السرجونية التي ربت يزيد ووجهته وكان من قبله سنداً لأبيه معاوية.
|