أطلقت الجمهورية الإسلامية الإيرانية اليوم رصاصة الرحمة على طموحات المالكي في العودة الى كرسي رئاسة الوزراء. فقد أعلن علي شمخاني رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني وفي تصريخ خص به وكالة"فارس" للأنباء أن" تغيير المالكي قد عزز من موقف ايران في منطقة الشرق الأوسط". وتعتبر هذه التصريحات الأولى التي تصدر من مسؤول ايراني كبير والتي تتضمن تخليا ايرانيا عن رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي, واعترافا بأن تبديله بالدكتور حيدر العبادي قد عزز من مكانة ايران في المنطقة.
وتنبع اهمية هذه التصريحات من كونها تعكس تغيرا في السياسية الإيرانية حيال العراق بشكل عام وإزاء القوى السياسية الشيعية بشكل خاص. فايران ألقت بثقلها الكامل خلف رئيس الوزراء العراقي السابق طوال السنوات والماضية وخاصة خلال ولاية المالكي الثانية. حتى انها ضحت بحلفائها التقليديين كالمجلس الإعلى الإسلامي واختلفت مع تيار الأحرار على خلفية رفض تلك القوى لتجديد ولاية المالكي بعد خسارته للإنتخابات عام 2010.
وبعد نجاح المالكي في الإحتفاظ بمنصبه بفضل الدعم الإيراني وثق المالكي علاقاته بايران التي كان يحاول الإبتعاد عنها خلال ولايته الأولى التي كانت أمريكية بامتياز فيما كانت ولايته الثانية ايرانية بامتياز. فالمالكي الذي تولى رئاسة الوزراء خلفا للجعفري ماكان للويات المتحدة التي كانت لديها اليد الطولى في العراق حينها, أن توافق على تعيينه في منصبه خلفا للجعفري الذي وضعت فيتو عليه, لولا علمها بابتعاده عن ايران.
فالمالكي بشكل خاص وحزب الدعوة بشكل عام, لم يكن على وفاق مع ايران طيلة سنوات المعارضة وكان التوتر والتباعد السمة التي طبعت علاقة الطرفين ولاسباب مختلفة لا يسع المجال لذكرها. ولذا فان امريكا أعطت الضوء الأخضر لتولي المالكي للمنصب. ومن جانبه كان المالكي وفيا للولايات المتحدة طيلة سنوات ولايته الأولى, وابتعد قدر المستطاع عن ايران, بل انه غرد بعيدا عن السياسية الإيرانية, وظهر ذلك جليا عبر استهدافه لفصائل المقاومة العراقية وخاصة جيش المهدي خلال عملية صولة الفرسان وعبر زجه للآلاف من أتباع التيار الصدري في السجون وهم المعروفون بمواقفهم العدائية لأمريكا.
كما وان المالكي هدد برفع ملف أكبر حليف لإيران في المنطقة الا وهي سوريا الى مجلس الأمن على خلفية اتهامها بدعم الإرهاب في العراق. كما وتوسع النشاط الأمريكي في العراق حينها وكان للأمريكان دورا سياسيا كبيرا في إدارة امور البلاد. الا ان خسارة المالكي لأنتخابات العام 2010 وفوز الدكتور أياد علاوي بها وهو الذي يحتفظ بعلاقات جيدة مع امريكا والسعودية, ضعف من حظوظ المالكي في البقاء في منصبه. فامريكا وقفت على الحياد حينها, وان كانت تحبذ ومن طرف خفي تولي علاوي للمنصب لإعتبارات شتى, ومنها انه مقبول من قبل حلفائها في المنطقة وخاصة السعودية.
حتى وصلت الأمور الى طريق مسدود امام المالكي وكادت آماله في البقاء في منصبه أن تتبخر لولا ايران. التي قلبت الموازين رأسا على عقب وفرضت على الفرقاء الشيعة والكرد تأييد المالكي مقابل التزامه بالسياسة الإيرانية والإبتعاد التدريجي عن امريكا. وهو ما تحقق بالفعل خلال ولاية المالكي الثانية. وقد كانت باكورة هذه التحول هو توقيع الإتفاقية الدفاعية مع أمريكا والتي افضت الى خروج القوات الأمريكية من العراق عام 2011. اضافة الى توقف المالكي عن استهداف القوى السياسية الشيعية الأخرى وخاصة التيار الصدري الذي لولا أصوت نوابه لما حاز المالكي على ثقة البرلمان.
لقد تحول المالكي رويدا رويدا الى عضو فاعل في المحور الإيراني في المنطقة ووثق علاقاته مع نظام الأسد في سوريا. وهو التحول الذي أزعج الولايات المتحدة التي قررات التخلي عنه بالرغم من قناعة أمريكا بأن تحول المالكي من محورها نحو المحور الإيراني ليس مبنيا على أسس ايديولوجية وإنما يخضع لحسابات المصالح وبريق السلطة. فالمالكي لم يكن يوما قريبا من المحور الإيراني بل كان يحتفظ دوما بمسافة بعيدة عنه حتى اضطر الى الإرتماء بأحضانه طمعا في كرسي الحكم.
الا انه وبالرغم من أن ذلك التغير في سياسات المالكي أعطى المحور الإيراني قوة دفع كبيرة مكنته من الهيمنة على المنطقة وأصبح قوة كبيرة يحسب لها ألف حساب في المنطقة مع امتداده من غزة وحتى طهران مرورا بلبنان وسوريا والعراق واليمن, إلا أن ما لم يكن في حسابات إيران هو تقديرها للضعف الداخلي الخفي الذي كان يعتري العراق والذي كان يغطي عليه المالكي الذي كان يظهر بمظهر السياسي القوي الذي لا يساوم ولا يرضخ للإبتزاز.
إلا ان الفساد الذي كان ينخر في جسد الدولة العراقية كان يقضي رويدا رويدا على عناصر القوة فيها وبشكل لم تكن ايران تتوقعه حتى وقع مالم يكن في الحسبان عندما سقط ثلث العراق بيد تنظيم داعش الإرهابي الذي وقف على أبواب العاصمة العراقية بغداد. وحينها عرفت ايران بان المالكي لم يكن سوى نمرا من ورق. فالضعف الذي اصاب العراق وجه ضربة موجعة للمحور الإيراني الذي دخل مرحلة تقطع الأوصال بعد ان حافظ على تماسكه طوال السنوات الماضية.
ومع الموقف الحازم الذي اتخذته المرجعية الدينية والقوى السياسة المختلفة من تجديد ولاية المالكي وبعد انتهاء الإنتخابات الأخيرة, رضخت ايران للواقع الجديد الا انها ظلت وحتى اللحظة الأخيرة تتمنى بقاء المالكي في منصبه الذي نجح في خداعها عبر لعبه دور القوي في المنطقة الذي يستمد قوته منها. الا ان الساسة الإيرانيين المعروفين بحنكتهم السياسية أيقنوا اليوم بأن المالكي ورقة محترقة وأن الإستمرار بتأييده سيعني ابتعادها عن المرجعية الدينية وعن مختلف القوى السياسية العراقية, وهو ما لاتريده, وفضلا عن انكشاف حقيقة قدرات المالكي وسوء ادارته للدولة.
ولذا ومع اتضاح الصورة قررت ايران اختيار جانب الغالبية من أبناء الشعب العراقي واسدال الستار على عهد أسود من تاريخ العراق وخاصة بعد النجاحات التي حققها العراقيون وبمختلف انتماءاتهم في معركتهم ضد الإرهاب التي تصلح ما أفسده المالكي وتعيد الأمور الى نصابها وهو مايفسر تصريح شمخاني. فإزاحة المالكي أسهمت في إعادة بعض الهيبة والقوة للعراق والتي فقدها في زمن المالكي وفي ذلك تعزيز لموقع ايران في منطقة الشرق الأوسط خاصة وأنها تقف اليوم الى جانب العراق في حربه ضد الإرهاب.
|