التوسل حقيقة قرآنية كونية وفطرة وجودية وبديهة عقلية |
التوسل لغة كل ما يُتوجه به ويُتقرب به إلى الغير لطلب حاجة أو حصول منفعة أوالوصول إلى غاية ، واصطلاحاً التوسل هو كل ما يتوجه به ويتقرب به إلى الله عز وجل لطلب حاجة من الله عز وجل ، والتوسل قد يكون بأسماء الله وصفاته ، وقد يكون بالذوات المخلوقة الصالحة حية أو منـتـقلة ، وقد يكون بالأعمال الصالحة ؛ والتوسل بالذوات الصالحة سواء حية أو منتقلة تكون العبرة فيه بالصلاح والقرب من الله عز وجل وليس بالموت والحياة ، لأن التأثير الحقيقي استقلالا يكون للمُتوسَـلِ إليه وهو الله عز وجل ، أما المُـتوَسَـلُ به فهو واسطةُ خير بين الحق عز وجل وبين الخلق لمكانته وقربه من الله عز وجل . والتوسل هو حقيقة قرآنية كونية وفطرة وجودية وبديهة عقلية ، فكل الموجودات والخلائق تمارس التوسل ولا تنفك أبداً عن التوسل ، فكل الموجودات الخَـلْقية فى الكون ترتبط مع بعضها البعض بروابط وعلاقات لا نهاية لها ، هذه الروابط والعلاقات فى حقيقتها الظاهرة والباطنة هي عـين التوسل وحقيقته ومعناه ، . فمثلاً إن الوسيلة التى تنقل إلينا الضوء فى ظلمة الليل هي القمر ، فأشعة الشمس تنزل على سطح القمر فتنعكس على الأرض ليلاً لتحيل ظلمة الليل إلى نـور ، ووسيلة المريض إلى الشفاء هي الطبيب المختص الذى يصف العلاج المناسب ، والغريق الذى يغرق وحوله بعض الناس فإنه يتوسل بهم لإنقاذه من الغرق . فلا مانع نقلاً أو عقلاً أو فطرةً من التوسل بالصالحين من الأنبياء والمرسلين والأولياء ، وبالصالح من أعمال البر والتقوى والإحسان . * أدلة قرآنية عن التوسل : 1 / {{ وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان }} البقرة : 186 فى هذه الآية الكريمة دليل عظيم على التوسل فإن الله عز وجل يقرر فى هذه الآية أن عباده يسألون نبيه عنه ، فجعل نبيه صلى الله عليه وآله وسيلة إلى معرفة الله ومعرفة أنه قريب من عباده إذا دعوه ، فإن الله عز وجل أحال عباده فى السؤال والجواب إلى نبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ليكون هو الوسيلة فى تلقى السؤال من العباد وتوصيل الإجابة من الله عز وجل . . فتأمـل . 2 / {{ قالوا يا أبـانـا استغفـر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين * قال سوف أستغفر لكم ربى إنه هو الغفور الرحيم }} يوسف 97 : 98 فقد توجه إخوة يوسف عليه السلام إلى أبيهم يعقوب عليه السلام ليكون وسيلتهم إلى الله ليغفر لهم ويتوب عليهم وقد قبل يعقوب عليه السلام منهم أن يتخذوه وسيلة إلى الله عز وجل لغفران ذنوبهم ، فالآية توضح لنا معنى التوسل فى أسمى معانيه وأبسطها ، فلدينا المُتَوَسِلُ وهم إخوة يوسف ولدينا المُتَوَسَّلُ به وهو يعقوب عليه السلام ولدينا المُتَوَسَّلُ إليه وهو الله عز وجل ولدينا الغرض من التوسل وهو غفران الذنوب، فهذه حقيقة التوسل بكل وضوح وجلاء ، وخلاصة الأمر أن المُتَوَسِلُ والمُتَوَسَّلُ به يعلمان تمام العلم وتمام اليقين أن المؤثر الحقيقى هو المُتَوَسَّلُ إليه وهو الله الغفور الرحيم الذى يملك المغفرة ويفيض بها على المخلوقين استقلالا وقدرة . ولكن لماذا لجأ إخوة يوسف إلى التوسل بأبيهم ؟ إن الإجابة ببساطة شديدة أنهم فى هذه الحالة كانوا فى حالة ضعف شديد لا تؤهلهم إلى التوجه إلى الله عز وجل بسبب ما فعلوه مع يوسف عليه السلام ، فتوجهوا إلى أبيهم الصالح وتوسلوا به ليطلب لهم المغفرة من الله عز وجل لأنه فى حالة قرب عظيم من الله عز وجل ولأنه هو المهييء لهذا التوجه . 3 / {{ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك محذورا }} الإسراء : 57 فى هذه الآية الكريمة يبين الله عز وجل أن الذين يتوجهون إلى الله بالدعاء يتخذون وسيلة إلى ربهم لاستجابة دعائهم ، وهذه الوسيلة هي وسيلة ذوات ويتضح ذلك من لفظ {{ أيهم }} أي هم يتوسلون بالذات الأقرب إلى الله تعالى أي الذات الصالحة القريبة من الله عز وجل قرباً عظيماً ، وهذا المعنى جاء ليبين أن التوسل مشروعٌ طالما أن الإنسان متوجه به إلى الله عز وجل ، أما التوجه إلى الذوات بالدعاء عبادة لها فهذا كفر لا شك فيه لذلك يقول الله عز وجل فى الآية السابقة لهذه الآية {{ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا }} الإسراء : 56 والمقصود هنا توجه الإنسان إلى الذوات سواء كانت بشر أو ملائكة أو أصناماً وطلب الدعاء منها على اعتبار وجود الألوهية فيها وأنها مؤثرة بذاتها استقلالا . والفرق شاسع بين الكفر والإيمان ، فدعاء الذوات المخلوقة {{ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا }} على أنها ذوات إلهية لها القدرة والاستقلال فهذا كفر لا ريب فيه ، أما التوسل بالذوات المخلوقة الصالحة {{ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا }} بسبب قربها من الله عز وجل وإخلاصها فى العبودية لله عز وجل والمعرفة به فهذا إيمان لا ريب فيه . 4 / {{ يا أيها الملأ أيكم يأتينى بعرشها قبل أن يأتونى مسلمين }} النمل : 38 هذه الآية تبين أن نبي الله سليمان توجه إلى الملأ الحاضرين عنده من إنس وجن وطلب منهم أن يأتوه بعرش بلقيس ملكة سبأ ، مع أنه أقدر منهم على ذلك ولكن هذا الطلب جاء لبيان النعمة الإلهية عليه فى تربية المؤمنين من الإنس والجن تربية ربانية عظيمة وصلت بهم إلى أعلى مقامات القرب من الله عز وجل التى أهلتهم لخرق العادات الكونية كإحضار عرش بلقيس من اليمن إلى الشام فى أقل من طرفة العين مع فهم واعتقاد أن الفاعل الحقيقي هوالله عزوجل ؛ والشاهد هنا هو طلب سليمان من الملأ وتوجهه إليهم وهذا هو عين التوسل وحقيقته .
* التوسل كحقيقة كونية : 1 / ظاهرة المد والجزر : المد والجزر هما ظاهرتان طبيعيتان تحدثان لمياه المحيطات والبحار بتأثير من القمر. المد هو الارتفاع الوقتي التدرجي في منسوب مياه سطح المحيط أو البحر. والجزر هو انخفاض وقتي تدرجي في منسوب مياه سطح المحيط أو البحر. إن وجود القمر هو وسيلة لحدوث ظاهرة المد والجزر ، والمسبب لذلك هو الله عز وجل . 2 / ظاهرة الليل والنهار : تنشأ هذه الظاهرة نتيجة لدوران الأرض حول نفسها خلال اليوم بالنسبة للشمس ، حيث تشرق الشمس بصورة متعاقبة على أحد نصفى الكرة الأرضية وتغرب فى نفس الوقت عن النصف الآخر . فحيثما يحدث شروق للشمس على موقع ما على الأرض يحدث لحظيا غروب لها عن المكان المقابل لهذا الموقع على الكرة الأرضية . وطالما تدور الأرض حول نفسها تتكرر بصفة مستمرة ظواهر الشروق والغروب فى المواقع المختلفة على سطحها . فلو توقفت الأرض عن الدوران لأصبح النهار سرمديا على أحد نصفيها بينما يصبح الليل سرمديا على النصف الآخر ، الأمر الذى سوف يدمر الحياة الراقية على الأرض . فلسوف تحترق حينئذ الحياة على نصف الكرة الأرضية المواجه للشمس بصورة مستمرة بينما تتجمد الحياة على النصف الآخر المظلم . إن دوران الأرض ووجود الشمس هما وسيلتان لحدوث ظاهرة الليل والنهار والمسبب لذلك هو الله عز وجل . التوسل كفطرة وجودية : إن الإنسان عندما يشب وينمو ويمر بمراحل النمو المختلفة من طفولته حتى يصير شاباً فشيخاً فإنه يقوم بعملية التعلم حيث يكتسب خصائص وصفات وخبرات وعلوم ومعارف يستفيدها من كل ما حوله فى المجتمع ، وفى مراحل النمو المختلفة فإن الإنسان يكون متأثراً بكل ما حوله ومؤثراً فيه ؛ وهذه العملية هي فطرة وغريزة بشرية فى الإنسان ، وعملية التأثر والتأثير هذه يكون فيها الإنسان إما مُـتَـوَسِّلاً بغيره ، أو مُـتَـوَسَّـلاً به من غيره ، فمثلاً لا يمكن أن يكتسب المتعلم علماً بغير معلم ، وهذا هو التوسل بعينه وحقيقته كفطرة وجودية .
* التوسل كبديهة عقلية : إن الإنسان فى مسيرته الحياتية لا يمكن أن نتصوره دون أن يكون محتاجا إلى الآخرين بشكل أو بآخر ، فالطفل لا يمكن تصوره بدون احيتاجه إلى أمه لإشباع غريزة الجوع ، فالأم وسيلة الطفل لإشباع هذه الغريزة .
** وخلاصة الأمر أن التوسل حقيقة قرآنية وحقيقة كونية وفطرة وجودية وبديهة عقلية ، فالكون كله وجميع المخلوقات قائم على التوسل ، والفاعل الحقيقي والمؤثر المطلق والمُسـبِّـب الأعظم هو الله عز وجل فالمُـتَوَسَـل به هو سبب بين المُـتَـوَسـِل والمُـتَـوَسَّـل إليه وهو الله عز وجل ، وحقيقة التوسل هي أن المُـتَـوَسـِل والمتوسَل به هم خلائق وعبيد مربوبون لله رب العالمين خاضعون وخانعون له عز وجل |