ألفاظ "خلافيّة" في اللغة المعاصرة |
هناك ألفاظ "خلافية" كثيرة في لغتنا المعاصرة ، تُقرأ قراءتين. إلا أن السبب في إهمال إحدى القراءتين وتبنّي الأخرى هنا ليس لأنها مشتركة بين المحكية والمعيارية، بل لأن القراءة الأولى شاعت مدة طويلة على الأقلام والألسنة، والثانية ابتكرها "الغيورون" ظنّاً منهم أنها أصحّ أو أفصح. يلفت النظر في هذا المجال أنّ معظم المتحدّثين باللغة المعيارية، والعاملين في الصحف والإذاعات والتلفزيونات، محلّية وفضائية، يؤثرون في الأغلب القراءة الغريبة المستحدثة على القراءة القديمة الشائعة. لماذا يتعبون أنفسهم في معرفة القراءة الصحيحة، يكفي أن إحدى القراءتين غريبة، غير ما ألفوه، ليظنّوا أنها الصحيحة. من باب أغرب تعجب! من هنا يجب، في "استطراد بديع" ، كما يقول الشدياق، أن يكون في كل مؤسّسة كبيرة أو صغيرة، وخاصّة في الصحف والإذاعات والتلفزيونات، "مستشار لغوي" يرجع إليه العاملون في المؤسّسة لمعرفة الصواب من الخطأ. وإذا تعذّر وجود "مستشار" فليكنْ في كل مؤسّسة، على الأقلّ، موظّف ذو ثقافة لغويّة، يعرف كيف يفتح القواميس وكتب اللغة، وكيف يفكّر تفكيراً منطقيّا، ليساعد زملاءه في القراءة الصحيحة: 1) مُهِمّة / مَهَمّة من الألفاظ الخلافيّة المذكورة مُهمّةّ / مَهمّةّ. الكلمة الأولى هي التي شاعت أوّلاً، وهي وإن كانت مشتقة من الهمّ إلا أنها تعني، في لغتنا المعاصرة، الواجب الذي يُلقى على عاتق المرء لتنفيذه - task أو assignment - ومن هنا التركيب مُهمّةّ مستحيلة/ ثقيلة الذي انتقل الى اللغة المحكيّة أيضاً. لا تحمل هذه الكلمة في اللغة الكلاسيكية هذه الدلالة طبعا، فالمهم أو المهمّة هناك تعني الأمر الشديد أو العظيم، كما وردت عند دريد بن الصمّة في داليّته المعروفة: قليل التشكّي للمُهمّات حافظ / من اليوم أعقابَ الأحاديث في غدِ ومن الهمّ بمعنى القلق والحزن تطوّرت الدلالة، فيما نظنّ، إلى معنى العزم على القيام بالأمر. فهمّ بالشيء تعني أراده وعزم على القيام به. ثمّ اكتسب هذا الأصل معنى القيمة الكبيرة أو الأهمية كما هي في لغتنا المعاصرة. ومن هنا فالهامّ / المهمّ تعني شخصاً أو أمرا له قيمة كبيرة، لأنّه لا فرق في المعنى بين الفعلين: همّ / أهمّ. ثمّ استحدثت اللغة المعاصرة كلمة مهمةّ، بمعنى الواجب أو العمل الهامّ الذي يجب تنفيذه. وعليه تكون مهمةّ اسماً للفاعل تذوّت، أو صفة تحوّلت إلى اسم ذات، تماماً مثل: مصيبة، نازلة، كارثة، نائبة... (ما أكثر أسماء المصائب في العربية!). بعد شيوع المهمّة بضمّ الميم الأولى، ولا غبار على اشتقاقها ومعناها، فطن أحد "الغيورين" فيما يبدو أن مُهمّة تعني أيضا ذات أهمية، فابتكر مَهمّة بفتح الميم، والوزن مصدر ميمي من الفعل همّ. هكذا نجد اليوم من يقرأ مهمّة بضم الميم، وهي قراءة أسبق وأسهل في رأينا، ومن يقرؤها بفتح الميم. بل وردت أيضا في قاموس ڤير، معجم اللغة العربية المعاصرة ، بالقراءتين: مهمةّ بالفتح وجمعها مهامّ، وفسّرها: important matter, task, function، ومهمة بضم الميم وجمعها مهمات، فسّرها أيضا: important matter، بالإضافة إلى معان أخرى في صيغة الجمع لا تتصّل بالسياق هنا. أمّا شاروني في القاموس الجامع، عربي - عبري، فأورد مهمة بفتح الميم، وذكر أنها مصدر همّ وتعني: الأمر، ولا مهمة لي به: لا يعنيني، لا أفكّر فيه. وأوردها بضم الميم ذاكراً أن جمعها مهمّات ومعناها: وظيفة، فرض، موضوع، رسالة، واجب. فهل من سبب، بعد هذا الشرح المستفيض، لقراءتها بالفتح سوى رغبة بعضهم في الإغراب ؟ 2) مَتحف / مُتحف هناك أيضا مَتحف / مُتحف، تقرأ مرّة بفتح الميم وأخرى بضمّها. والقراءة بالفتح أيسر وشائعة على الألسن أيضاً، ولعلّ ذلك بالذات هو عيبها! وسواء قرأناها بالفتح أو بالضمّ فلا خلاف في أنّها اسم مكان، أي المكان الذي تجمع فيه التحف. ما هي الدعوى ،إذن، في ضمّ الميم لا فتحها؟ يرى "الغيورون" أنّ اسم المكان يجب اشتقاقه من الفعل، وفي رأي البصريين، من مصدر الفعل إذا أردنا الدقّة. وبما أن القاموس لا يورد الفعل المجرّد تحف بل أتحف، وزن أفعل، لذا يجب اشتقاق اسم المكان من أتحف فيكون مُتحفا بضم الميم لا فتحها. هكذا وجدتها في المعجم الوسيط، ويفسّرها: موضع التحف الفنية أو الأثرية! اسألوا هؤلاء السادة: هل اشتقّ من استحدثوا هذا اللفظ من الفعل أتحف حقّا، أم من كلمة تحفة – اسم الذات؟ وهل من المفروض أن يكون الاشتقاق من الفعل / المصدر فقط ، أم هناك حالات يُشتقّ فيها من اسم الذات أيضا؟ هل الحجر، اسم الذات، مشتقّ من الفعل تحجرّ أم الفعل مشتقّ من اسم الذات، وهل الفارس، اسم الفاعل، مشتق من الفعل فرس أم من الفرس؟ تحجّر مشتقّ من الحجر طبعا، والفارس مشتق من الفرس، حتى إذا وجد فعل من هذا الأصل. ومثل هذا الاشتقاق من اسم الذات كثير في اللغة، حتى إذا اعتبره "المحافظون على نقاء اللغة"خروجاً. وقد وجدنا المتحف في قاموس ڤيروقاموس شاروني بفتح الميم فعلا، أمّا المنجد فلم يرد فيه ذكر للمتحف أصلاً ! بعد الانتهاء من كتابة هذا البند، سمعتُ بعض المتمطّقين يصرّ أيضا على قراءة مدخل بضم الميم لا فتحها، إي والله! 3) المباشِر / المباشَر هذه من الكلمات التي اختلفوا في قراءتها أيضا. بعضهم يقرؤها بكسر الشين، صيغة اسم الفاعل، وآخرون يفتحونها – صيغة اسم المفعول. القراءة الأولى ظلّت القراءة المألوفة حتى فطن "المدقّقون" أنّ هذا الاشتقاق "غير دقيق". ولماذا هو غير دقيق؟ عادوا إلى القاموس الكلاسيكي باحثين عن كلمة حديثة أو عن أصلها في نظرهم، فلم يجدوا سوى الفعل باشر. ففي المنجد مثلا: باشر الأمر، أو المجرّد بَشره، اهتمّ به، وتولاّه بنفسه، وباشر المرأة: دخل عليها! واضح إذن أن اللفظ مباشر لفظ جديد استحدثته اللغة المعاصرة بمعنى direct في الإنجليزية، وهكذا شاع، بهذا المعنى وبالكسر أيضا. ألمْ نتعلّم في طفولتنا، قبل سنوات كثيرة، عن الأسباب المباشرة وغير المباشرة في التاريخ، وبالكسر طبعا؟ ما زلت أذكر أن أوّل من ابتكر المباشر بفتح الشين كان الإذاعة اللبنانية حين استحدثوا لأوّل مرة البثّ المباشر، وكان هذا النوع جديداً على العالم العربي آنذاك، فرأوا أن يقرءوا المباشر بفتح الشين للأسباب التي أوردناها آنفا، في أغلب الظنّ، ليكون اللفظ بمعنى المبدوء!. وبأذني هذه سمعت بعض المذيعين يقرؤها مرّة بكسر الشين ومرة بفتحها بحيث لا يعترض عليه هؤلاء ولا أولئك! إقرأها بكسر الشين على مسؤوليتي يا أخي، ودع المتحذلقين يتحذلقون والمدقّقين يدقّقون، فما في هذه القراءة من خطأ، وإن كابر "الغيورون"! 4) الأساسيّ / الأساس من "الأساليب الحديثة" أيضاً استخدام الأساس صفة، فما أكثر ما تسمعهم يكتبون ويقرءون: السبب الأساس، ولا أدري من أين جاءوا بهذه التقليعة! الأساس والأُسَ والجمع أُسُس: أصل البناء (المنجد)، وهي بالطبع اسم ذات لا صفة، فإذا شئنا صياغة صفة عمدنا إلى اسم النسب – أساسيّ. تماما مثل: جبل – جبليّ، سهل – سهليّ، جذر - جذريّ. بل إن اللفظين، أساس/أساسي، نجدهما في الإنجليزية والعبريّة أيضا، بنفس الاستعمال والصيغة . فلماذا يتجنبّون السبب الأساسي ويؤثرون السب الأساس؟ اسألوهم! يضاف هنا أن اسم الذات قد يستخدم أحيانا في الأساليب الشعرية استخدام الصفة، فيكون خروجاً عن القاعدة والمألوف، وهو ما يرمي إليه الأسلوب الشعري غالباً، كقولنا: قلبٌ حديدٌ / حجرٌ. إلا أن الأسلوب المعياري المألوف هو: قلبٌ حديديّ/ حجريّ، ما في ذلك شكّ. الرئيسي أيضا من الألفاظ التي أعادوا النظر فيها، محاولين تصحيحها، وهكذا نسمع كثيرين يقولون: السبب الرئيس والدعوى الرئيسة. إلا أن ذلك يمكن تخريجه وقبوله أيضا. فإذا كان الرئيس مشتقاً من الرأس، فأغلب الظن أنّه كان في أوّل الأمر صفة ثمّ تذوّت، أي تحوّل في دلالته إلى اسم ذات، مثل شاعر وأديب، وأصبح معناه زعيم القوم أو قائدهم، وبهذه الدلالة شاع فعلا، ولذا اشتقوا منه اسم النسب: رئيسيّ. التخريج المذكور مقبول ومنطقي، فلا ضير إذن في استخدام الرئيس صفة، كما ورد في قصيدة للشريف الرضيّ فعلا: يتنكّب اللحمَ الذليل ويطلب العضوَ الرئيسا على كل حال، كلّ من يستخدم الرئيس صفة يتجاهل الرئيس اسما للذات، فيُغضب كلّ رئيس ونائب رئيس، وذنبه على جنبه! 5) التقييم / التقويم هذا أيضا لفظ خلافيّ، شاع أوّل الأمر بالياء، كما في القراءة الأولى، ومعناه ذكر قيمة الشيء وقدره – evaluation بالإنجليزية. يكثر استخدام هذا المصطلح في السياق التعليمي والتربوي، إلا أنه، مثل كل مصطلح آخر، يمكن الانتقال به إلى السياق العامّ أيضا. في رأينا أن القراءة الأولى، بالياء، هي القراءة التي شاعت، حتى فطن "الغيورون" إلى هذا الاستحداث فاعتبروه من الممنوعات، وفضلوا عليه الشكل الثاني – التقويم. لماذا؟ لأنهم عادوا كعادتهم إلى المراجع فوجدوا أن الأصل واوي (ق و م)، ولذا اعتبروا التقويم أصحّ وأفضل من التقييم، ما داموا قائمين على نقاء اللغة وحمايتها! لكنّ التقويم، كما هو معروف، له معان كثيرة أخرى: تقويم الاعوجاج، التقويم الشمسي والقمري، وتقويم البلدان، فلماذا نثقل هذه الكلمة بدلالة أخرى جديدة؟ لا يهمّ. ما دام الأصل واوياً، هذا هو رأي "الغيورين"، فلا بأس في إضافة دلالة أخرى للحفاظ على نقاء اللغة وسلامتها! ثمّ إن اشتقاق التقييم من القيمة أو القيّم لا يسيء إلى اللغة، ولا خروج فيه عن قواعدها وأصولها. فمن أعراف اللغة الاشتقاقية، مثل العربية والعبريّة، ما يسمّى الصياغة الثانوّية، secondary derivation أو back formation، وذلك يعني صياغة كلمة جديدة من كلمة أخرى، باعتماد حروف غير الحروف الأصلية، لتحمل دلالة جديدة تختلف قليلا أو كثيراّ عن الأصل. مثال ذلك في اللغة الكلاسيكية: وقى > اتقى > تقوى / تقيّ. فالتاء في تقوى / تقيّ عوملت معاملة حرف أصليّ رغم أنها حرف زائد. كذلك تاجر، تجارة تطوّرت في رأي علماء اللغة بالطريقة ذاتها: أجر > اتّجر > تجارة / تاجر. وفي اللغة الحديثة حين نقول تمركز وتمحور، وغيرها كثير، فإنما هي أيضا صياغة ثانوية لا تخالف العرف اللغوي، كما رأينا، وتسهم في تطوير المعجم. كذلك تقييم لا تخالف العرف اللغوي، وتسهم في تطوير المعجم الحديث، وتخفف في الوقت ذاته عن تقويم دلالة جديدة تضاف إلى دلالاتها الأخرى. لكلّ هذا يجدر بنا، في رأيي، استخدام تقييم بالذات، متحمّلين غضب "لغيورين" علينا! 6) السبعينات / السبعينياّت هذا اللفظ أيضا من مستحدثات اللغة المعاصرة. لذلك لا نجده طبعاً في المراجع الكلاسيكية، ولم نجده أيضا في قاموس ڤير. أمّا قاموس شاروني ، وهو من أفضل وأوسع القواميس للغة العربية الحديثة، فقد أورد السبعينات وفسّرها: سنوات السبعين. بالإضافة، وجدنا في القاموسين المذكورين الترجمة السبعينيةّ، وهي أوّل ترجمة للتوراة إلى اليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد، وسمّيت بهذا الاسم لأن الروايات تذكر أنها ترجمت بجهود سبعين عالماً يهودياً، وفي الإنجليزية Septuagint، ويترجمها قاموس المورد – سبعونيةّ. واضح إذن أن اللفظ مستحدث، وأغلب الظنّ أنه استحدث بتأثير اللغة الإنجليزية: seventy > seventies ، وتكتب أيضا70s، فأعملوا القياس واستحدثوا السبعينات جمعا للسبعين في العربية أيضاً. إلاّ أن كثيرين يصرّون على استخدام السبعينيّات، بياء النسب قبل الجمع، لا أدري لماذا! سألت أحد الأصدقاء لماذا يصرّ على إضافة ياء النسب، والكلمة بدونها أسهل لفظا وأكثر منطقية، كما شرحنا أعلاه، فقال إنه هكذا قرأها عند أحد الكتّاب المصريين! ليس الكاتب المصري المذكور قرآنا كريما يجب اتّباعه، بل يجب اتّباع المنطق والتيسير معاً، خصوصاً أن سبعينية لا تستخدم في وصف إحدى السنوات المذكورة. هناك أيضا من يكتب سنوات السبعينات، بل يستخدمون أيضا عقد الخمسينات. فقد قرأت في صحيفة الحياة مقالاً لفخري صالح، في 23-3-2005، ورد فيه: "... غطّت عقدي الخمسينات والستينات وجزءاً لا بأس به من السبعينات من القرن الماضي". هناك طبعاً عدم دقّة في استخدام سنوات السبعينات أو عقد السبعينات. فالسبعينات تعني سنوات السبعين، ولا حاجة إلى دلالة السنين مرتين. ثمّ إن العقد السابع يختلف، إذا توخّينا الدقّة، عن السبعينات أو سنوات السبعين . فالسبعينات، أو سنوات السبعين، هي السنوات 79-70، أما العقد السابع فهو طبعاً السنوات 61 - 70. ذلك أن السنة العاشرة يجب إحصاؤها في العقد السابق لا التالي لها. وهو "خطأ" أخذ به العالم كلّه، كما تذكرون، حينما اعتبروا سنة 2000، "احتفاء" بالأصفار الثلاثة، ورغبة في الاحتفال أيضاً، بداية الألفية الثالثة أو القرن الواحد والعشرين، بينما هي تنتمي في الواقع الى القرن العشرين والألفية الثانية! باختصار يجدر بنا القول: سنوات السبعين، السبعينات، العَقد السابع (السنوات70-61 ). ملحقة: بعد كتابة هذا البند، وقع في يدي، بمحض الصدفة، مقال للدكتور مصطفى الجوزو (مجلة العربي، العدد 595، يونيو 2008، ص 134- 135)، يتناول فيه هذه القضية بالذات! ذكر الجوزو في مقاله ذاك أن مجمع اللغة العربية في القاهرة "أجاز ذلك الجمع شرط دخول النسبة على العقد، نحو عشرينيات وثلاثينيات.. إلخ. وبقول آخر، لم يجز جمع العقود بل جمع ما ينسب إليها". ولأن المجمع لم يورد في قراره، كما أفادنا الدكتور الجوزو في مقاله، "مسوّغات هذه الإجازة"، فقد تطوّع هو بتقديم السبب لمنع هذا الجمع، وهو أن "العرب لم يستعملوا العقود قطّ مجموعة"! فهل يظن الأستاذ الكريم، ومجمع اللغة في القاهرة قبله، أن لغتنا في القرن الواحد والعشرين لا يجوز لها أن تخرج عما استعمله العرب في القرون الوسطى من صياغات واشتقاقات؟ وهل اللغة في العصر العباسي ذاته ظلت حبيسة في سجن سيبويه، ولم تبارحه إلى الهواء الطلق، إلى الحياة خلف الأسوار؟ عجبي!! 7) في عام 1950 / في العام 1950 يلاحظ في السنوات الأخيرة غلبة القراءة الثانية على أساليب الصحافة والأدب، بحيث يمكن أن يخيّل للقارئ أنها أصحّ من القراءة الأولى . كأنما القراءة الأولى، في عام 1950، التي كانت الوحيدة خلال عشرات السنين السابقة، هي قراءة غير صحيحة! لماذا في العام 1950 وليس عام / في عام 1950؟ لا أحد يفسّر أو يبرّر. لعلها ترجمة عن اللغات الأجنبية؟ على كل حال هي في رأينا تقليعة أخرى شاعت في الصحف والمجلات، ثم في النصوص الأدبية، دونما مبرّر منطقي، أو من باب "أغرب تعجب"، خصوصاً في نظر من لا يملكون الثقة بأنفسهم في القضايا اللغوية، فيسارعون إلى تقبّل كل تقليعة جديدة، ظناً منهم أنها تصحيح لما سبق. ولماذا يكتبون في العام 1950، ولا يكتبون في السنة 1950، ولا فرق بين السنة والعام في السياق النحوي على الأقلّ؟ لا أحد يعرف فيفسر لنا! في رأينا أن قراءة العام معرّفاً تكون حين يتلوها عدد ترتيبي، أمّا إذا كان العدد أصليّا فالأفضل أن تقرأ العام أو السنة نكرة مسبوقة بالحرف في أو دونه. بذلك تكون أمام من يرغب في قراءة سنة 25، مثلا، الخيارات التالية: سنةَ / في سنةِ خمس وعشرين. عامَ / في عام خمسة وعشرين. في السنة الخامسة والعشرين. في العام الخامس والعشرين. فمن منا يقرأ العدد 1950 عدداً ترتيبياً ليعرّف العام قبله بالألف واللام؟ ثمّ إن القراءة الأولى، عام 1950، أسهل ويقبلها الذوق، وتلائم المنطق النحوي المحكيّ، وهي القراءة المتبعة دائما في كتب التاريخ الكلاسيكية: في سنة أربع وعشرين، في سنة ثلاث مئة وعشرين... راجعوا كتب الطبري والمسعودي في التاريخ، وهو تاريخ كرونولوجي يتناول ما حدث في كل سنة من أحداث في فصل واحد، تجدوها مكتوبة وفقا للقراءة الأولى، دونما تعريف بالألف واللام . للإنصاف نضيف أخيراً أنه يمكن، نظريا أو في سياق خاص، أن نكتب العام معرّفة، كأنما العدد بعدها بدل منها، إلاّ أنّها قراءة غير عادية تختلف في معناها عن التراكيب المألوفة من هذا النوع، وهذا هو، ربما، سبب تبنّي البعض لها، من باب أغرب تعجب، كما أسلفنا. ملاحظة أخيرة: يبدو أن قراءة العدد والمعدود في العربية ليست بالمهمة السهلة. ألم نقرأ في كثير من المسلسلات العربية، مرة بعد أخرى: الحلقة الخامسة عشر، الحلقة السادسة عشر ... حتى نهاية المسلسل، دون أن يفطن أحد القائمين على اللغة في المسلسل لهذا الخطأ الفاضح؟! 8) التقيت به / التقيته من "الأساليب الحديثة" اليوم أيضاً تعدية الفعل التقى مباشرة، دونما حرف جر. فما أكثر ما نسمع: التقى الرئيس الأميركي الرئيس الفرنسي، التقى المعلم تلاميذه، وهكذا. قد يخطئ المذيع، أو مُعدّ النشرة ، مثلاً، في أمور نحوية كثيرة، إلا أنك تجده دائما حريصاً على تعدية الفعل التقى مباشرة ونصب مفعوله أيضاً، لئلا يقع في "التجربة"! فهل يجب علينا أن نقول التقيته ولا يجوز أن نقول التقيت به؟ قبل النظر في المراجع القديمة، وجدنا الأستاذ طلال علامة يعرض لهذه المسألة في كتابه صناعة الكتابة وفنّ التعبير، بيروت، 1955، ص. 118، فيؤكد أن الفعل التقى فعل متعّد، ولا يجوز أن نقول التقى به لأنه يتعدّى بنفسه، بل يُحيل القارئ أيضا إلى لسان العرب ج15، ص. 253، مادة لقي. انتقلنا إلى النظر في القواميس، فالفعل التقى ليس اشتقاقاً جديداً بالطبع، فوجدنا في المنجد: "التقى الشيءَ: لقيه، التقى القومُ: لقي بعضهم بعضا، تلاقى القومُ: التقوا". لم يذكر المنجد، كما نرى، أنه يجب تعدية التقى دائما، بل حينما نلتقي شيئا أي نجده، وهنا بالطبع لا يمكن القول: التقيت بكتاب، مثلا، لأنّ العمل لا مشاركة فيه. ثم يذكر المنجد أنّ التقى بمعنى تلاقى في المثال: تلاقى القومُ: التقوا. نظرنا في ڤير فرأيناه يذكر المعنى ، ثم يضيف بين قوسين (s.o. ب) أي أنه يتعدّى بالباء حين يكون اللقاء مع إنسان، كقولنا: التقيت بسعيد. وفي لسان العرب، مادة لقي، ورد أن التقوا وتلاقوا بمعنى، ثم فسّر بعد ذلك ملتقى أَكفناّ التي وردت في الحديث، قائلا: وملتقى أكفّنا أي أيدينا تلتقي مع يده وتجتمع. في القرآن الكريم أيضا ورد الفعل التقى في ثلاث آيات، تكرّرت فيها الجملة: التقى الجمعان، كما ورد الفعل في السياقات التالية: "...فالتقى الماء على أمر قد قدر، ... في فئتين التقتا، ... إذا التقيتم، ... مرجَ البحرين يلتقيان". وهكذا نرى أن الفعل في القرآن لم يُستخدم إلا لازماً مفيداً المشاركة كما في التقى الجمعان. من ناحية أخرى، إذا قلنا التقى الجمعان، فهل يمكن أن نقول، بناء على ذلك، التقى الجمع جمعاً؟ ثم إن الفعل التقى كما ورد أعلاه بمعنى تلاقى، فكلاهما إذن لازم ويفيد المشاركة. كذلك يمكننا التمثيل بفعل قريب من التقى معنى ومبنى. نقول: جمع المعلم تلاميذه، واجتمع بتلاميذه ، فهل يمكننا القول اجتمع المعلم تلاميذه ؟ جمع = لقيَ، اجتمع = التقى. وفي الشعر نقرأ مثلا لأحمد شوقي: وما هو إلاّ العين بالعين تلتقي / وإن نوّعوا أسبابــه والــدواعيـــا ولحافظ إبراهيم: فكـــم يراع حكـيـم في مشـارعه / قد التقى بيراع الكاتب الأربِ ولابن حمديس: ولمّا التقى بالروم طارت قلوبهم / كأن لم تكن أوكارهن الحيازما نخلص إلى القول إن التقى فعل لازم، مطاوع لقي المتعدّي، مثل الفعلين جمع واجتمع، صياغة وحكما. لدينا إذن، في استخدام التقى، أكثر من خيار: - التقى الرجلانِ. - التقى زيدٌ وعمرٌو. - التقى زيدٌ بعمرٍو. أمّا الخيار الرابع التقى زيدٌ عمراً فهو مبنى يجافي المنطق اللغوي المفصّل آنفا، رغم وروده في النصوص القديمة أيضا، بل يجافي الأذن، في رأيي، وتفسيره القسريّ هو النصب بما يسمى إسقاط العامل أو نزع الخافض، كما في قول الحطيئة: تفرّد في شعب عجوزاً... (بدلاً من بعجوز)، وغالباً ما ينصب الفعل التقى مفعولاً إذا كان مفعوله "شيئا" كما ذكر المنجد. 9) كلَّ / كلُّ عام وأنتم بخير ما أكثر ما نردّد هذا الدعاء / التحيّة، في اللغة المحكية والمعيارية، وفي الصحف أيضاً. مع ذلك كيف نقرؤها، أو كيف نشكل الآخر في كلمة كلّ، في الأساس؟ كلّ من ينتبه إلى المذيعين في الإذاعات والتلفزيونات يجد أن الكلمة تُقرأ على وجهين: بعضهم يرفعها بالضمّة، وآخرون ينصبونها بالفتحة، بينما ينشُد بعضهم السلامة، فيقرؤها بالتسكين تمشياً مع الحكمة القائلة: سكّنْ تسلم ! في كتاب الدكتور محمود سليمان ياقوت، فنّ الكتابة الصحيحة، فصل كبير سمّاه "في الأخطاء الشائعة" وفيه يعرض لهذه التحية الشائعة في الأعياد خاصّة. يعرب الجملة في البداية، على الطريقة التقليدية، باعتبار كلّ مبتدأ مرفوعاً، فإذا سألتم أين الخبر، فخبره في رأي الأستاذ محذوف والتقدير: كلُّ عام مقبلٌ. ثم يذكر أنه يجوز إعراب كل فاعلا لفعل محذوف تقديره: يقبل كلُّ عام. ويجيز أخيرا قراءة كلّ بالنصب باعتباره ظرفا لفعل محذوف تقديره: تحيون كلّ عام. يجوز إذن في رأيه قراءة كلّ بالرفع أو النصب، باعتباره مبتدأ أو فاعلا أو ظرفا، وكل إعراب وتقديره المناسب! نقرأ كل هذه المحذوفات والتقديرات، فنتذكّر الشدياق حين ذكر أن معلّم النحو كان يقضي ساعة تامّة في شرح جملة غير تامّة ! الحذف والتقدير، حتى عند النحاة القدامى، مفتعلان في الأغلب، يستعين بهما النحاة لتطبيق القواعد على النصّ قسراً، حتى ليخيّل لقارئ النصوص النحويّة أنّ اللغة كُتبت كلّها بناء على قواعد النحو، وكلّ ما لا ينطبق على تلك القواعد يجب فيه تقدير ما لا يظهر في النصّ أو اعتباره من الشواذّ في أحسن الأحوال. نعود الى جملتنا، كلّ عام وأنتم بخير، لنكتشف بعد النظر الدقيق فيها أن مبناها هذا استقيناه من اللغة المحكية، لا تحكمه قواعد سيبويه. فالجملة أصلاً هي تعبير محكيّ وافد على المعيارية، وإذا كان من المفروض تطبيق النحو الكلاسيكي على هذه العبارة، فلا بدّ من إعراب كلّ ظرفاً، دونما حذف أو تقدير، والجملة أنتم بخير هي الجملة الأساسية، هي العمدة، والواو رابط شكلي أو زائد، لأنّ المعنى في الجملة هو أننا نتمنّى الخير، لمن نحييه بهذه التحيّة، في كل سنة جديدة. وعليه فلا فرق كبيراً في المعنى بين التعبير المذكور وقولنا: أنتم بخير كلّ عام، سوى أن التعبير الأول يحمل في لغتنا المحكية معنى الدعاء، أي هو جملة إنشائية، والثاني بعد التغيير الذي أحدثناه فيه أصبح جملة خبرية طبعاً. وإلاّ فكيف يعرب لنا الأستاذ ياقوت هذه الجملة التي قرأناها في مقالة لكاتب معروف: منذ نصف قرن ونحن ندخل معركة إثر معركة؟ هل نعرب منذ فاعلاً لفعل محذوف أم مبتدأ خبره محذوف؟! نخلص إلى القول إن كل عام وأنتم بخير جملة محكية المبنى، ونحوها محكيّ أيضا، وفي لغتنا المحكية كثيرا ما نستخدم مثل هذه المباني النحوية كقولنا: ساعتين وانا واقف، ومثلها كثير. لذلك يجب قراءة كلّ بالنصب باعتبارها ظرف زمان. أقول هذا وفي ذهني مثالان من الشعر ورد فيهما الرفع بالذات لا النصب. المثال الأوّل من قصيدة فلسطينية لنزار قباني يقول فيها: عشرون عاماً وأنا أبحث عن أرض وعن هويةّ، والأصحّ أن يقال عشرين عاماً )وعلى هذا النحو غنّتها أمّ كلثوم !). والمثال الثاني للجواهري، لا غيره، يقول فيه: سبعون عاماً والكنانة تغتلي / والنيل يشخب والجموع تساءُ. والأصحّ أن يقال سبعين عاماً. أرأيتم أخيراً كيف تسلّل المبنى المحكيّ حتى إلى شعر الجواهري؟!
|