خطيئة الاقتصاد الريعي

في ظل الانحدار المريب، وربما المقصود في أسعار النفط العالمية والتذبذب غير المستقر لها في سلة أوبك حيث وصلت معدلاتها الى مناسيب غير مسبوقة ولسنين عدة (60 دولارا فقط) وفي ظرف عراقي غير مناسب تماما لتقبل تبعات أية صدمة لأزمة اقتصادية او مالية في وقت يحتاج فيه العراق الى أموال ضخمة لتمويل حربه طويلة الامد ضد عصابات "داعش" الإرهابية ولإدامة مشاريع البنى التحتية والاستثمارية، اقول في ظل هذا التراجع والتذبذب في اسعار النفط نعرف بأن هنالك أزمة مالية تلوح في الافق الزماني المنظور، وهو شيء طبيعي جدا في الدول التي تعتمد في ميزانياتها على عوائد الاقتصاد الريعي او أحادي الجانب كالنفط او أي مورد ريعي يغذي ميزانية الدولة ويقاس به مستوى الدخل القومي
للفرد.
ومن قدر العراق ان النخب السياسية الحاكمة ومنذ تأسيس دولة العراق الحديث (1921) انتهجت مبدأ الاقتصاد الريعي بالاعتماد على واردات النفط والركون تحت رحمة سعر برميل النفط دون التفكير باللجوء الى مصدر آخر او تفعيل وتنشيط بقية المصادر الريعية كالزراعة والصناعة والسياحة ومنها السياحة الدينية والترفيهية، وحتى القطاع النفطي العراقي بقي قطاعا متهالكا ومتداعيا في بناه التحتية كالاستخراج والتكرير والتصدير والتسويق، وفي بعض الأحيان لا يكفي هذا القطاع لسد حاجة السوق المحلية وفي بلد مؤسس في منظمة أوبك (تأسّست في بغداد سنة 1960، من طرف السعودية، إيران، العراق، الكويت وفنزويلا، ومقرها في فيينا ) وعضو فاعل فيها.
تذبذب الاسعار في سلة اوبك لم يخلُ هو الآخر من منطق نظرية المؤامرة وخضع لعوالم افتراضية من التحليلات الاقتصادية المتلبسة بجلباب السياسة كما يتوهم ويفترض البعض، وقد يكون الضغط السايكولوجي دافعا وراء ذلك.
ولمحاولة إيجاد تبرير ما لعدم الاستقرار في اسعار النفط نقول ان تذبذب الاسعار هذا هو مسألة طبيعة جدا تتعلق بمناسيب العرض والطلب العالميين على سوق النفط ويكون مرهونا بالسياسات المالية والاســتثمارية والتـخزينية
العالمية.
وفي ظل هذه الأجواء المشحونة بالقلق من تردي الأوضاع الاقتصادية للبلد ما يؤثر سلبا على الواقع المعيشي والوضع الأمني، لا سيما ما يتعلق بالحرب مع الارهاب لاسيما مع "داعش" وتأخر إقرار الموازنة التي ظلت ـ كالعادة ـ تتأرجح وتتراوح مابين مجلسي النواب والوزراء، برزت أفكار تدعو الى تنويع مصادر الدخل القومي وعدم احتكار القطاع النفطي لهذا الدخل ما يجعل العراق عرضة للهزات والأزمات المالية العالمية والترقب المتوجس للخط البياني لسعر برميل النفط كي يستقر عند مستوى سوقي مقبول ليتسنى لواضعي السياسات المالية والنقدية في البلد وضع خططهم وستراتيجياتهم على ضوء سعر البرميل الذي يتحكم بحجم الموازنة وتفاصيلها وصولا الى موعد إقرارها الذي تأخر لعدم استقرار السوق النفطية على معدل معين للسعر!!.
وهذه الدعوات الى تنويع مصادر الدخل القومي هي بالتأكيد دعوات صادقة ويلفها الحرص الأكيد، إلا انها وفي ظل إرهاصات المشهد العراقي تبدو دعوات غير ناضجة او شبه مستحيلة في الوقت الراهن والمستقبل القريب، وذلك لان اي قطاع اقتصادي من الممكن ان يساهم برفد ناتج الدخل القومي يحتاج الى مقومات وإمكانات ومتطلبات يرتكز عليها، وان كانت الإمكانات الوطنية دون المستوى فسيتم فتح باب الاستثمار وفق اشتراطات تُراعى فيها المصلحة الوطنية وبما يعزز مستوى الدخل القومي وليس العكس، كما يحتاج الى ان تتضافر جهود جميع السلطات في البلد فضلا عن المؤسسات الاقتصادية والنقدية والإعلامية وإلا تبقى تلك الدعوات مجرد أضغاث أحلام ليست لها قاعدة رصينة او حقيقية على ارض الواقع.
ولتنشيط اي قطاع اقتصادي مهم يحتاج الأمر الى مرتكزات عديدة منها وجود حاضنة قانونية تساهم في إقرار القوانين التي تسهل تدفق رؤوس الأموال سواء الوطنية او الأجنبية التي تدخل في عملية الاستثمار، وتلعب الحاضنة القانونية دورا في تهيئة المناخ الملائم لذلك مما يساهم في مرونة تدفق رؤوس الأموال والشركات اللازمة للاستثمار، كما تلعب الحاضنة السياسية دورا كبيرا في تهيئة هذا المناخ ومن خلال أجهزة الدولة التنفيذية لتوفير جو آمن ومستقر وجاذب للاستثمار.
ويحـــتاج تنــشيط القطاعات الاقتصاديـــة التي تكــسر احتكار الاقتصاد الريعي الى بنى تحتية واسعة النطاق فضلا عن رصد أموال طائلة وتشريع قوانين (حاضنة تشريعية) تعمل على تهيئة جو ملائم لتنشيط عجلة هذا القطاع وتوفير الكوادر البشرية والدعم المالي واللوجستي لأي قطاع اقتصادي حيوي وفي أجواء مريحة من الطمأنينة والثقة المتبادلة، فضلا عن تهيئة أرضية مناسبة للعمل الاقتصادي كالتقليل من حلقات البيروقراطية المعرقلة لمفاصل العمل والمثبطة لجهود ذوي الخبرة والكوادر المدربة والابتعاد عن العلاقات المجاملاتية المبنية على أسس المحاباة والتحاصص الحزبوي والكتلوي، والاهم من كل ما تقدم هو الابتعاد عن الحلول الترقيعية والمرتجلة التي لاتغني ولا تسمن من جوع.
وصار لزاما في المستقبل القريب على الحكومة العراقية ان تبحث عن مصادر اخرى تساهم في توفير سيولة نقدية ترفد الدخل القومي وتكسر احتكار القطاع النفطي الذي دام لعقود طوال من عمر الدولة العراقية
الحديثة.