بشرت الأديان السماوية قاطبة بظهور المصلح المنقذ في آخر الزمان ونهاية التاريخ الانساني (ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً) كما بشر بذك خاتم الانبياء والمرسلين الصادق الامين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي حركة الهية تكاملية تصل في نهايتها الى المجتمع الكامل الذي بشر به الأنبياء (ع) والصالحون.
وجاءت هذه الفكرة والبشارة تأكيداً للحقيقة القرآنية التي تؤكد على وراثة الصالحين والمستضعفين في الأرض:"ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" – الانبياء 105، وكذلك "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" - سورة النور الآية 55، حيث اكد الامام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام في معنى قوله عز وجل انها جاءت في الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف (النعماني/240، والمحجة/148، والبحار:51/58، والاحتجاج:1/256) .
وأوكل الباري سبحانه وتعالى لأئمة أهل البيت عليهم السلام بعد رحيل الرسول المصطفى (ص) هذا الدور البالغ الحساسية في التمهيد لتلك المرحلة التاريخية ولظهور ذلك المنقذ المصلح للبشرية؛ حيث كانوا عليهم السلام يطرحون وباستمرار على الناس فكرة المهدي المنتظر (عجل) والقائم بالأمر لانقاذ البشرية من الظلم والطغيان والفساد، مما دفع بالكثير من المسلمين في مختلف عصور أهل البيت (ع) وحتى من قبل أتباعهم يتصور أن أحدهم هو القائم المهدي (عجل).
وقد وضع الأئمة المعصومين عليهم السلام في مناهجهم التبليغية إبقاء فكرة الظهور حية في وسط المسلمين مع الارتباط الحقيقي بها والاحساس بالانتظار، وجعله شعاراً مطروحاً في وجودها الثقافي ووعيها السياسي.
وكان يهدف الأئمة من أهل بيت النبوة والعصمة عليهم السلام بذلك إقامة التمهيد لإقامة حكومة الاسلام الأصيل، حيث انصبّت جهودهم الجلية في إطار تأهيل الأمة وتثقيفها وإعدادها لأمر الغيبة، ما جعلهم (ع) عرضة للملاحقة والتنكيل من قبل خلفاء الجور والظلم والزور والتزوير منذ رزية الخميس مروراً بسلطة بني أمية وبنو العباس وما بعدها هم وأتباعهم حتى يومنا هذا.
فكانت المهمة الألهية في إبقاء فكرة الانتظار حية في المجتمع الاسلامي والانساني تنتقل من امام لآخر عليهم السلام على امتداد الامامة حتى وصلت الامام الحادي عشر من أئمة الهدى أي الامام الحسن بن علي العسكري عليه السلام ومن قبله والده الامام علي الهادي عليه السلام حيث صب جلّ اهتمامهما عليهما السلام في هذا الاطار، فكانت مهمة الامام العسكري (ع) أكثر صعوبة من سائر الأئمة (ع) الذين سبقوه خاصة وان عهده كان مشحونا بالانحراف العباسي والخرافات الدينية بدعم من السلطة الحاكمة .
ست سنوات هي فترة امامة الامام الحسن بن علي العسكري (ع) ليقوم خلالها بالبرنامج العملي الكبير والمهم والشاق لاعداد الامة الاسلامية لعصر الغيبة والظهور، ذلك العصر الذي بشرت به الاديان السماوية برمتها طيلة الحياة البشرية وتحدث عنه جميع أنبياء ورسل رب العالمين خاصة أولي العزم منهم عليهم السلام أجمعين .
فكان الامام العسكري (ع) الذي نعيش اليوم استشهاده المؤلم على يد المعتمد العباسي (8 ربيع الأول سنة 260 للهجرة) ريادي في اعداد الاُمة المؤمنة بالامام المهدي(عليه السلام) لتقبّل الغيبة التي تتضمّن انفصال الامة عن الامام (ع) بحسب الظاهر وعدم امكان ارتباطها به وإحساسها بالضياع والحرمان من أهم عنصر كانت تعتمد عليه وترجع إليه في قضاياها ومشكلاتها الفردية والاجتماعية، فقد كان الامام (ع) حصناً منيعاً يذود عن أصحابه ويقوم بتلبية حاجاتهم الفكرية والروحية والمادية في كثير من الأحيان.
وقد شكل هذا الامر صدمة نفسية وايمانية للمسلمين المؤمنين الذين كانوا قد اعتادوا على الارتباط المباشر بالامام (عليه السلام) ولو في السجن أو من وراء حجاب وكانوا يشعرون بحضوره وتواجده بين ظهرانيهم ويحسّون بتفاعله معهم، والآن يُراد لهم أن يبقى هذا الايمان بالامام المنتظر (ع) حيّاً وفاعلاً وقويّاً بينما لا يجدون الإمام في متناول أيديهم وقريباً منهم بحيث يستطيعون الارتباط به متى شاؤوا.
وكان لا بد من رأب صدع هذه الصدمة (الغيبة) بجهود مضاعفة لتخفيف آثارها وتذليل عقباتها، فبذل الامام الحسن العسكري (ع) جهداً كبيراً وتحمل مشقة لا توصف من ظلم سلاطين الجور لبني العباس وهو القائل: " ما مُنِيَ أحدٌ من آبائي بمثل ما مُنيتُ به"- من كتاب الامام الحسن العسكري من المهد إلى اللحد للقزويني؛ ليعدّ الأمة للأنتظار على مختلف الصعد فكرياً وذهنياً ونفسياً وروحياً وفي وقت قصير جدّاً من إمامته القصيرة جداً فأقام نظام الوكلاء اولئك الذين كان قد عيّنهم لشيعته في مختلف مناطق تواجد شيعته. فكانوا حلقة وصل قوية ومناسبة ويشكّلون عاملاً نفسيّاً ليشعر أتباع أهل البيت باستمرار الارتباط بالإمام وإمكان طرح الأسئلة عليه وتلقي الأجوبة منه. فكان هذا الارتباط غير المباشر كافياً لتقليل أثر الصدمة النفسية التي تحدثها الغيبة لشيعة الامام (ع) .
وهكذا تمّ الاعداد الخاص من قبل الامام الحسن العسكري (عليه السلام) للشيعة ليستقبلوا عصر الغيبة بصدر رحب واستعداد يتلائم مع مقتضيات الايمان بالله عزوجل وبرسوله (ص) وبالأئمة (ع) وبقضية الامام المهدي الموعود (عجل الله تعالى فرجه الشريف) العالمية والتي تشكّل الطريق الوحيد لانقاذ المجتمع الانساني من أوحال الجاهلية في هذه الحياة.
ويعد الانتظار الصادق والمخلص من أهم العبادات وأزكاها كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج من الله عز وجل" ، كما أكد ذلك أمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب عليه السلام قائلاً: "انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله فإن أحبّ الأعمال إلى الله عز وجل انتظار الفرج" وكذلك "المنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله".
|