تؤشر بقوة نتائج الإنتخابات التونسية في 21 الجاري، التي ساتناولها في تحقيق لاحق، ان القوى المتخلفة لن تستطيع تحويل "الربيع العربي" إلى خريف، عندما تكون هناك ركائز قوية للمجتمع المدني الليبرالي. وبقدر ما يخلد التاريخ الرئيس الحبيب "بوركيبة" بكونه رائد المدرسة الليبرالية المدنية ونجاحه في مآسسة دولة مدنية متفتحة، فأن الشباب الذين تباهي بأن عقولهم بالدراسة هي نفط من نوع آخر يدر العطاء على تونس، العاطل عن العمل والمهمش كان القوة التي خلعت الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، لتناسيه اسباب تنامي تذمر المواطنين واتساع نفوذ القوى الإسلامية أواخر ايام سلطة بوركيبة، فكان تزايد البطالة وانعدام الأمل في ظل "البأس" السبب الرئيس لسقوطه، بعد ان كان قد خلع رئيسه بوركيبه بانقلاب ابيض قبل 24 عاماً، ضمن توجهات لإستيعاب السخط الشعبي، لكنه صار ابعد من شيخه عن المواطنين. وكانت الانتخابات السابقة قد مكنت حزب النهضة الإسلامي وحلفاءه من السيطرة على البرلمان والسلطة، ووفق توجه مؤسف للقوى غير متأصلة المنهج الديمقراطي، وتريد من الديمقراطية التربع على السلطة واهمال توجهات الرأي العام، بدأت محاولة تقنين الكثير من المفاهيم الإسلامية المتشددة والعجز عن معالجة المشاكل الاساسية، على عكس التوجه العام لتونس التي يشكل الشباب فيها نسبة ساحقة. وفي ظل الفشل في تحقيق الأستقرار وجلب الأستثمارات لتشغيل العاطلين وتوفير موارد مضافة للدولة، كان اليسار الديمقراطي ورموز بارزة فيه، يتقدمهم المفكران شكري بلعيد ومحمد البراهمي يسجل بجرأة، في اطار الدستور بوسائل سلمية، ملاحظاته بشجاعة عن اخفاقات السلطة والاستحواذ بأسم الاغلبية النيابية بتجاهل الإرادات الأخرى. وجاء اغتيال المفكر اليساري شكرى بلعيد بداية الحقت افدح الضرر بالسلطة الإسلامية بحكم مسؤوليتها المعنوية عن تمكن داعش من تصفيته، وجاء بعدها اغتيال المفكر القومي اليساري محمد البراهمي، الذي اسس مع رفيقه بلعيد تجمع "الجبهة الشعبية"، ليحفز انعدام الثقة بالسلطة وحلفائها، ضمنهم رئيس الجمهورية المؤقت المنصف المرزوقي. واتسم تحرك القوى المدنية الديمقراطية بدرجة عالية من الوعي بالمسؤولية عن تحري سبل تحقيق الأستقرار ولقمة الخبز والأمل في حياة افضل، فكان اصطفاف ضم وجوه من شيوخ البوركيبية يتقدمهم القايد السبسي و" النظيفين" من نظام بن علي، وهكذا جاءت اغلبية وفق "وديعة" تضمن الكثير للقوى الليبرالية الديمقراطية، ضمنها اليسار "الدستوري"، كذلك طمأنة حزب النهضة والإسلاميين الدستوريين باتساع ساحة العمل السياسي لهم. ما حققه التونسيون يؤكد ان الديمقراطية لن تحميها فقط نيران احتجاج محمد البوعزيزي وبعده اغتيال البراهمي ابني ولاية سيدي بوزيد من عمق الغرب التونسي المهمل، إنما درجة الوعي المتاتي من الثقافة المتسمة باقصى درجة من الإيمان بالوطن وتغليب المصالح العليا عملياً وليس بالشعارات، وهو ما ينطبق على زعيم حزب النهضة السيد راشد الغنوشي الذي وعى نبض الشارع ولم يصطدم به.
|