هل تتغير طبيعة الدين؟! |
عادت الصحف الأميركية والأوروبية لبحث أسباب قوة «داعش»، وأسرار جاذبيته في أوساط شبان العرب والمسلمين في بلدانهم وفي المهاجر. وهذه العودة أو الرجعة تشبه ما كان الاستراتيجيون ومسؤولو الدول الغربية قد صاروا إليه في عامي 2004 و2005.. يومها ذهب رامسفيلد، وزير الدفاع الأميركي في فترة بوش الأولى، إلى ضرورة شن «حرب أفكار» على «القاعدة» وبناتها، باعتبار أن الحروب العسكرية على الإرهاب ليست كافية للقضاء على الظاهرة. ومثل هذا النقاش يعود الآن للجريان والسريان؛ إذ بعد قرابة الستة أشهر من الحرب العالمية على إرهاب «داعش»، ما بدا أن تنظيم الدولة قد ضعف، كما أن جاذبيته ما تراجعت لدى مقاتليه أو لدى متابعيه والمنجذبين نحوه على وسائل التواصل. ما سر قوة «داعش» المعنوية وليس المادية؟ القوة المادية للتنظيم والتنظيمات المشابهة مثل «حزب الله» اللبناني معروفة؛ فلدى «داعش» موارد مادية كبيرة من حقول النفط والغاز التي استولى عليها، ومن وسائل الابتزاز والفدية، ومن استغلال المحاصيل في النواحي التي سيطر عليها، ومما استولى عليه من موارد الدول في سوريا والعراق. والموارد المادية هذه يمكن إضعافها إلى حد كبير، كما حصل في قصة «تجفيف منابع وموارد الإرهاب»، طوال عقد ونصف العقد. أما التنظيمات الشيعية؛ وأبرزها «حزب الله»، فإن مواردها من إيران، ومما استولت وتستولي عليه في البلدان التي تسيطر فيها. وهذه الموارد يمكن إضعافها أيضا، إنما بطرائق أخرى، مثل التوافق مع إيران على سياسات جديدة تجاه المحيط. لكن كما لم تمت «القاعدة» بتجفيف الموارد؛ فكذلك «داعش» لن يموت إذا أخرج من المناطق النفطية. ومن المشكوك فيه كثيرا أن يذهب «حزب الله» وأبو الفضل العباس وقوات بدر... إلخ دون أثر إن تخلت إيران أو حولت مسارات تلك التنظيمات العنيفة. إن الأصوليات الإسلامية السنية والشيعية، إنما ظهرت في قلب الدين الإسلامي عبر عدة عقود. وقد استطاعت الأصولية الشيعية، ومن خلال عمليات تحويل المفاهيم عن المذهب، ومن خلال حشد الجمهور، أن تستولي على الدولة الإيرانية، فخاضت عمليات تصفية وتهجير هائلة خلال ثمانينات القرن الماضي بما في ذلك إجراء تغيير عميق في المذهب الشيعي وتقاليده. أما في خارج إيران، فقد أنشأت تنظيمات شيعية مسلحة وغير مسلحة، دأبت على دعمها وقيادتها واستغلالها في تفكيك المجتمعات والدول. ورائدها ذلك الوعي الجديد الذي غير من طبيعة المذهب الشيعي الاثني عشري. حضر الإمام الغائب، وصارت الدولة ضرورية الآن، وانتهى زمن التقية. ومرت الأصولية السنية بالمراحل ذاتها، بل إن عمليات التحويل باتجاه إقامة «الدولة الإسلامية»، إنما بدأت عند السنة قبل الشيعة، وقد قال لنا عبر العقدين الماضيين العشرات من قادة حزب الدعوة العراقي، ومن تلامذة الخميني، إنهم كانوا يتدارسون كتب سيد قطب في حلقاتهم الأولى السرية.. إذن ما هو الدين في النهاية؟ الدين نصوص وتقاليد وفقه للعيش أو رؤية للجماعة المؤمنة في العالم. وقد عمل الإصلاحيون الأوائل، وفي طليعتهم السلفيون، على ضرب التقليد بحجة جموده أو انحرافه عن النصوص وزمن النبوة والجماعة الأول. وعندما تحطم التقليد، انتشرت لملء الفراغ الجماعات الأصولية الجديدة التي تبادلت مع الحداثة العداء والإنتاج المتبادل. لكن في حين استطاع أصوليو الشيعة إقامة دولتهم العقائدية، ما استطاع ذلك أصوليو السنة. ولذلك انقسموا إلى سياسات وجهاديات. وكلا الطرفين يحمل الأفكار الجديدة ذاتها حول استعادة الشرعية، وإقامة الدولة الإسلامية على أنقاض الجاهلية المعاصرة، والدول الوطنية الفاشلة أو المتآمرة على الإسلام. لكن ذوي التسيس من الأصوليين يعتقدون أن ذلك يمكن أن يتم بالمهاودة وعلى مراحل وبالوسائل المعهودة في العالم الحديث، فإذا شاركوا في السلطة أو استولوا عليها من طريق الانتخابات، عندها يعملون على «التمكين» وتطبيق الشريعة أو النظام الكامل. أما الجهاديون المسارعون والمتشجعون بالاستيلاء الأصولي في إيران؛ فإنهم انفجروا في «جهاد» صار هو الركن الرئيسي في الدين الجديد، وكانت تجربة الحرب الأفغانية حاسمة في الاقتناع بإمكان إقامة الدولة من هذا الطريق! ولا حاجة لرواية بقية القصة.. فكل بلد دخلته إحدى الأصوليتين، نشبت فيه حروب أهلية. وهي حروب خلخلت المجتمعات، وخدمت الأنظمة، التي اهتم الدوليون بدعمها حفظا للاستقرار، ومكافحة للإرهاب، وبخاصة أن الأصولية السنية بلغت ذروة «جهادها» بالهجوم بالطائرات على «العدو البعيد» وهو الولايات المتحدة. فهناك جاذب للشبان إليها وهو مقاتلة الولايات المتحدة وحلفائها. وهناك جاذب مكافحة الأنظمة الفاسدة وغير الإسلامية. وهناك، ثالثا، الصدام الذي حصل في الأعوام الأخيرة عندما تواجهت الأصوليتان بسبب دخول التنظيمات الإيرانية إلى مناطق الكثرة السنية. بيد أن السبب الأهم في صعود الأصوليتين هو عمليات تحويل المفاهيم التي غيرت وتغير من طبيعة الدين، فالأصوليتان تؤمنان بالنظام الكامل الموحى (= تطبيق الشريعة). وقد عملت على صناعة هذا النموذج نخب إسلامية ومتأسلمة عبر عقود وعقود. وقد قاومت المؤسسات الدينية في المذهبين عمليات التحويل والتخريب. بيد أن الافتراق القاسي بين المؤسسة الدينية الشيعية والدولة الوطنية في إيران والعراق، جعل المؤسسة القوية في أوساط العامة تتبنى عبر بعض قادتها الأطروحة الأصولية لدولة التمهيد الحاضرة، التي تناظر دولة تطبيق الشريعة عند الإخوان و«الجهاديين». أما المؤسسة الدينية السنية فما اتسمت بالقوة في مواجهة التحويلات المفهومية. ومن جهة أخرى، ما أمكن للأصوليين تحويلها، بل تجاوزوها دون صعوبات كبرى، لأن أطروحة «الإسلام دين ودولة»، أحدثت صدمة في صفوف الشيوخ. لقد انهارت التقاليد العريقة في المذهبين أو لدى السنة والشيعة. والمواضعات الجديدة في التشيع الحاكم تحشد الشبان باسم الروح العريق، وإنما بوظائف جديدة مثل مقاتلة التكفيريين، وحماية مراقد آل البيت! وتجد هذه التحشيدات جاذبية لعوامل القوة والتسلط والغلبة والمكاسب المادية. أما لدى شبان السنة فتكمن الجاذبية في أنهم يقومون بالواجب الذي أهمله الآخرون (= الفريضة الغائبة). وكلا الأمرين يوشك أن يغير من طبيعة الدين: فهل تتغير طبيعة الدين فعلا؟ أم إنها موجة تمضي كما مضت سابقاتها؟ أما في المذهب الشيعي، فالعودة إلى الحالة السابقة صعبة لتضاؤل المقاومة إلى حدود التلاشي. وأما عن السنة فالاعتماد على المجتمعات، ومن بعد على المؤسسات الدينية التي ينبغي إصلاحها من أجل التصدي لـ«الجهاديين»، ولعمليات تحويل المفاهيم! لقد استولت على رجالات الدين والسلطة أو السلطة الدينية بإيران مشاعر ومصالح الغلبة ودعاوى وانتصارات المظلومية. في حين تتراوح الأحاسيس لدى متشددي السنة بين الغضب من انقلاب الأمور، وإرادة الخروج من الاستضعاف!
|