المئذنة والمدخنة

الحرية .. كلمة

لا يحتاج مسجد الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه أن تحشد حوله مواكب طويلة من الآليات العسكرية الضخمة ، وتزرع اللاقطات والكاميرات ، كما لو أنه محارب خطر مدجّج بجميع أنواع الأسلحة ، أو أنك اكتشفت في باحاته منجماً من الذخيرة والعبوات والأحزمة الناسفة .
لا يحتاج مسجد إمام أهل الرأي وأحجى أهل عصره أن تحاصره بالجنرالات والماريشالات والعساكر ، وفي أيديهم البنادق والعصيّ والسياط والهراوات . يطلقون الرصاص والقنابل الصوتية والدخان الأبيض فيمنعون حشداً من المسلمين من أن يشهدوا صلاة المسلمين ، ويؤدّوا فرضاً فرضه الله ، ويخلصوا ضمائرهم لربّهم في ساعة نهار .
لا يصحّ أن تتجمّع الحرب على باب هذا العالم الفقيه الموهوب الفذ في كلّ ميزان على نحو مفزع مخيف . كما لا يحتاج أن يلوذ الإمام أبو حنيفة بنجدة رئيس مجلس النواب وحماه ، ولا أن يطلب من القائد العام للقوات المسلحة إطلاق سراحه . فإن للمسجد ربّاً يحميه . خالق الكون ولا خالق سواه .
لا يُضار مسجد أبي حنيفة في شيء من ذلك كلّه . يكفيه أن كلّ حجر من حجارته تومئ إلى عظمته . كلّ مئذنة من مآذنه يستريح تحت أفيائها كلّ مكظوم ، ويتحلّق حولها كلّ صاحب حق مغصوب ، وتتطامن عند بلاطاته الجباه النديّة حين تسجد خشوعاً بين يديّ الله ، وتسمع من كلّ ناحية من نواحيه صيحات مظلوم تنادي بالإنصاف ، وتشخص الأبصار ، وتشرئبّ الأعناق . أعناق الفقراء والمعدمين .
لذلك فإن هذا الإمام الأعظم ذا النسب العربيّ والإقامة العراقيّة لا يحتاج إلى ملاذات آمنة . لم يكن خائفاً حتى تؤمنه بعد خوف . إنه لا يخاف ولا يجفل . يكفيه أنه من طينة الشهداء . غادر حياته في حرب مع الباطل ، مؤمناً أن لا بقاء للحق دون الشهداء ، وإلا فإن كل قيم الإنسانية تتهاوى وأوّلها جوهر روح الفداء .
لا تستحقّ مدينة كالأعظمية العظيمة أن يُكاد لها كلّ هذا الكيد . أن تنام في المتاريس والثكنات والحواجز ، فتلقى ألواناً من الضيم في حصار منكر ، إذا اتفقنا أنها مدينة عراقية وليست في خارطة كوكب آخر . لا تستحقّ أن تثقلها بالأغلال والقيود حتى لا تقدر على حركة ، وتجعلها غرضاً للسهام واللئام . لا تستحق أن تسدّ عليها منافذ الضوء ، وتلجم الحنجرة ، وتغلق النوافذ ، وتختم على أبوابها بالشمع الأحمر خوفاً من العواصف العابرة ، وحتى لا تستطيع أن تبصر النهار ، أو تتنفّس نسمات الهواء .
أتابع على الشاشات ما أراه من مشهد كما لو أننا في معارك المصير وأستعجب . لا يمكن للسلطة أن تذهب بالخوف والارتباك بعيداً ، وتتعلّل بجميع هذه المبالغات من التعسّف في الإجراءات والتعلاّت ، بأنها جاءت في سبيل حماية المصلين وحفظ الأمن العام من المندسّين والغرباء الوافدين . لأن الجزء الأعظم من هؤلاء المصلّين تمنعهم في كلّ صلاة جمعة من الوصول إلى المسجد . وتقابلهم بالاستهانة والازدراء . وكان من الممكن إفساح الطريق للصلاة على نحو طبيعي .
ما أصعب ما واجهه الإمام أبو حنيفة في حياته ، وما أشدّ ما قاساه في غيابه : ( علوّ في الحياة وفي الممات .. لعمرك تلك إحدى المكرمات ) !. لن تستطيع بندقية أن تهدم المئذنة ( لتبني فوقها مدخنة ) .