فلسفة مبسطة: الديالكتيك مجتمع بدون فلسفة هو مجتمع مشلول العقل!

 

 

كثيرا ما يصطدم القراء، خاصة الجيل الشاب والطلاب باصطلاحات تطرق آذانهم لأول مرة، لكن لا يجدون لها تفسيرا، أو إذا وجدوا يكون التفسير أكثر تعقيدا من الاصطلاح نفسه.

مثلا اصطلاح الديالكتيك؟ قد يجدون بجانبه تفسيرا/ ترجمة عربية مثل كلمة "الجدل". السؤال هل يكفي هذا الاصطلاح بترجمته إلى العربية ليفسر المضمون الفلسفي للموضوع؟ الكلمة يونانية الأصل وتعني "أناقش" ... "أتحدث".لكن ذلك لا يعطي مضمون اصطلاح الديالكتيك.

من هنا أرى أهمية العودة إلى بعض الأسس الفلسفية العامة لطرحها بلغة مبسطة، واضحة ولا تحتمل الخوض بعمق الموضوعات وتعقيداتها. إنما طرح فهما واضحا للموضوع، بأسلوب ميسر وسهل يعطي، خاصة للجيل الناشئ، فهما لبعض القضايا الفلسفية، لعل في ذلك إفادة لمن يهتم بطرق آفاق جديدة خارج العلبة المقفلة التي تميز الواقع الاجتماعي والفكري الرسمي للعالم العربي... إن مجتمعا بدون فلسفة هو مجتمع مشلول العقل، يفتقد إلى الدافع للتنوير، التغيير والتقدم.

إذن ما هو الديالكتيك؟

 

يقول لينين(قائد ثورة أكتوبر ومؤسس الاتحاد السوفييتي) " إن الديالكتيك في معناه الأصلي هو دراسة التناقص في صميم جوهر الأشياء".

الجواب المختصر والأبسط: الديالكتيك هو علم التطور. يدرس هذا العلم القوانين العامة لتطور الطبيعة والمجتمع والفكر.

لماذا يجري التطور؟ ما هو المصدر والقوة الدافعة للتطور؟ بأي أشكال يجري التطور؟ ما هي العلاقة والنسبة بين القديم والجديد؟

ذكرت ان الديالكتيك له قوانين عامة. مثل أي علم آخر.الكهرباء لها قوانينها العامة، الكيمياء لها قوانينها العامة.. الفيزياء لها قوانينها العامة، علوم الهندسة ، العلوم الإنسانية، التاريخ ، الرياضيات، البيولوجيا.. الخ، لا يوجد علم بدون قوانين عامة.

إذن ما هي قوانين الديالكتيك؟

هناك عدد من قوانين الديالكتيك: 1- تحول التغيرات الكمية إلى كيفية وبالعكس.

2– قانون وحدة وصراع الأضداد.3- قانون نفي النفي. وهناك مقولات فلسفية أخرى: الماهية والظاهرة، الضرورة والصدفة، الإمكان والفعل، العلة والمعلول .. الخ!

سنتحدث عن اول هذه القوانين: قانون "تحول الكم الى كيف".

هذا القانون يجيب عن السؤال حول الأشكال التي يجري به التطور، مجال الفلسفة تشمل جميع العلوم. لذلك نجد اليوم اصطلاحات مثل فلسفة العلوم، فلسفة الرياضيات، فلسفة التربية والتعليم، فلسفة الديانات.... هذا يعني أن الفلسفة هي العلم الذي يعالج مجمل العلوم الإنسانية ومنها تتفرع مجموعة واسعة جدا من الفلسفات ذات الاختصاصات المحددة.

لنبسط الموضوع، تعالوا نفسر أولا تركيبته اللغوية؟

ما هو الكيف (أو النوعية)؟

كيف نميز بين شيئين مختلفين؟ مثلا كيف نميز النجمة عن الكوكب؟ كيف يختلف الرعد عن الزلازل؟ كيف نميز الإنسان عن الحيوان؟ كيف نميز سفينة الصحراء ( الجمل) عن القارب البحري؟

الإشارة لهذه المميزات سهل جدا لأنها ملموسة.هذه الصفة تسمى "كيفية".أي أن الكيف هو كل ما يميز الموضوع المعين عن المواضيع الأخرى. الشكل ، الطول، الحجم ، اللون،طرق الاستعمال، الفائدة المرجوة .. ويمكن سرد عشرات الصفات الأخرى.

إذن "الكيف" هي الصفة التي من دون وجودها لن يكون الشيء هو نفسه. مثلا ألإنسان لا يستطيع ان يوجد بدون قلب. هل هذه صفة كيفية للإنسان تميزه عن الحيوان مثلا؟ طبعا خطأ، الحيوان أيضا له قلب.

إذن هناك صفات جوهرية وصفات غير جوهرية.أو صفات كيفية بدون وجودها لا توجد الكيفية التي تميزها. وهي الصفات التي لا يوجد الموضوع بدونها.

مثلا: مجموعة الصفات الجوهرية للإنسان (الكيفية) تختلف عنها لدى الكلب.. أو حيوان آخر.

الإنسان نشأ نتيجة الحياة الاجتماعية والنشاط الاجتماعي العملي. الإنسان يملك الوعي والقدرة على التفكير، على الإنتاج والإبداع على التخطيط المستقبلي، على القدرة لتبادل الخبرات وتطويرها، على تطوير اللغات وتعلمها ، على الكتابة والرسم والقراءة والتمثيل...الكلب أو الحيوان يتصرف حسب غريزة لا واعية (والمثل العربي يقول "الحمار حمار ولو بين الخيول نشأ). النجوم والكواكب تختلف عن بعضها جوهريا.النجوم هي أجرام سماوية ترسل الإضاءة والحرارة. الكواكب أجرام سماوية لكنها لا ترسل الضوء وتدور في مدارات معينة. إذن هنا توجد كيفيتان مختلفتان للأجرام السماوية.

متى يبرز الكيف؟ فقط عندما تقام المقارنة بين المواضيع المختلفة. متى تبرز كيفية أخلاق الناس؟ تبرز بالعلاقة مع الآخرين وبدون ذلك لا يمكن معرفة أخلاق الفرد أو الجماعة.

الجانب الثاني: "الكم".

الكم يمكن ان يكون صغيرا، كبيرا ، قريبا، بعيدا ومئات الصفات الأخرى المختلفة والمتنوعة.مثلا الكواكب.. أقربها للأرض هو المريخ وهو أكبر قليلا من القمر. هناك المشترى أكبر بكثير من المريخ .. من الناحية الكيفية كلها كواكب من نوع واحد. الكمية (الحجم) يختلف.

الناحية الكمية تختلف وليست ثابتة مثل الكيفية. الإنسان يكون طفلا. كيفيته عن الإنسان الكبير لا تختلف. لكنه ينمو، يكبر أي يتغير من ناحية الكم. إذن الكم يدل على العدد، الحجم، الوتيرة، المقياس، الوزن.. الخ!

الكمية والكيفية هما صفتان للموضوع الواحد ومترابطتان. الكيفية لا تتغير، الكمية تتغير. هذه الوحدة بين الكم والكيف تسمى في الفلسفة "المعيار" وهي الحدود التي يحتفظ الموضوع داخل نطاقها بصفاته الأساسية.داخل هذا المعيار يمكن ان تجري التغيرات الكمية ( نموذج نمو الإنسان من طفل إلى شاب إلى رجل التغييرات هنا ليست بالكيف بل بالكم.).

مثال من الطبيعة: الماء بدرجة حرارة صفر بارد جدا. بحرارة 100 مئوية فوق الصفر حار جدا. إذن معيار الماء يتراوح بين صفر و 100 درجة. اذا سخنا الماء فوق ال 100 درجة (101) مثلا، تبدأ نقطة تحول الماء إلى بخار، أي إلى كيفية جديدة. إذا بردتاه تحت الصفر يتحول إلى جليد. حالة كيفية جديدة أيضا ومختلفة عن البخار أو الماء السائل.

تعالوا نأخذ نموذجا آخر: القنبلة الذرية. يستعمل في صنعها يورانيوم 235 .هذه المادة لا توجد في الطبيعة جاهزة بل تصنع في المفاعلات النووية بالتحويل من كمي إلى كيفي. لو أخذنا قطعة يورانيوم واحد سنتيمتر، مهما ضغطنا عليها وضربناها بالشاكوش أو وضعناها داخل النار لن تنفجر. تطلق بالطبع أشعة خطيرة. لو أضفنا لهذه الكمية كميات أخرى حتى نصل إلى كمية 1100 غرام يورانيوم 235 عندها سيحدث انفجار نووي (القنبلة الذرية بمضمونها هي تجميع كمية 1100 غرام يورانيوم 235 لذلك لا تجمع مثل هذه الكمية سوية داخل القنبلة الذرية، بل كميات اقل من 1100 غرام تُفصل عن بعضا بالزنك الذي لا يسرب الإشعاع وتفجيرها يتم عبر تجميع اليوروانيوم داخل القنبلة بشكل ميكانيكي) هكذا تتحول الكمية إلى كيفية (في هذه الحال كيفية سلبية). التحول هنا يحدث عن طريق القفزة.طبعا العلوم رصدت قفزات سريعة وأخرى بطيئة.

عملية انفصال الإنسان عن عالم الحيوان استغرقت مليون سنة على الأقل.. والتحول هنا إلى كيفية جديدة تتميز بالوعي في جذورها، بإنشاء مجتمعات بشرية، العمل المشترك، الدفاع المشترك، بتطوير الزراعة ونشوء اللغة.. الخ.. وصولا إلى الحضارات والحداثة التي نعيش تفاصيلها اليوم.هل توقف التطور؟ إطلاقا لا كل يوم نواجه إبداعا جديدا.. فتحا جديدا ، وهذا يشكل إضافات كمية جديدة. لكن الإنسان يبقى من الناحية الكيفية نفسه كما كان قبل مليون سنة من حيث مبناه البيولوجي.

من الخطأ الإشارة إلى نوعين من القفزات فقط، لأن القفزات لا تحدد بشكلين سريع أو بطيء. بل لها أشكال كثيرة جدا. يمكن ان يجري التحول بقفزة واحدة أو بعملية قفزات عديدة تستغرق زمنا أطول. طبعا الظروف الخارجية أيضا تؤثر على شكل التطور: سرعته، بطئه ، عمقه، امتداده... الخ!

نقطتان أخيرتان: بين الكم والكيف ارتباط ديالكتيكي (جدلي) والتغيرات تجري باتجاهين، من كمية إلى كيفية وبالعكس، هذا أولا، ثانيا:هناك كيفيات أولية وكيفيات ثانوية.الكيفيات الأولية هي كيفيات موضوعية ، توجد مع الشيء إما الكيفيات الثانوية فهي كيفيات مكتسبة.

آمل أن أكون قد أعطيت فكرة واضحة أولية وعامة عن الموضوع.