رؤية الموسيقى – 1- لمحة تاريخية ومدخل إلى الجمال

 

 

بعد عام مضن من المتابعة السياسية العسيرة والمرهقة لنا معشر الكتاب السياسيين وقرائنا الذين لم يألوا جهداً في الإصرار على المواصلة معنا والقراءة لا تقل إرهاقاً عن الكتابة احياناً، أود أن أبدا هذا العام بهدية اعبر فيها عن تقديري لجهد القارئ المثابر الذي لم يهرب من الدرب العسير ذي الحقائق المرة والإستنتاجات الموحشة إلى الإغراق بالسهل "اللطيف" من "حقائق التسالي" على النت، وأصر أن يعطينا بين الحين والآخر إشارة بأنه "هنا" فيقلل وحشة هذا الدرب امام أعيننا.

 

ورغم أن الصراع لم ينته ولن ينتهي قريباً، فلا بأس من لحظة تأمل واستراحة مقاتل نبدأ بها سنتننا الجديدة التي نعدكم أنها ستكون معركة شرسة للدفاع عن الحق الذي نراه. هذه إذن ليست مقالة، بل رحلة موسيقية سمعية بصرية حضارية للترفيه من جهة وللتذكير لمن أنساه الصراع المر، بأن الحياة يمكن أن تكون جميلة، وأن البشرية لم تنتج أدوات الدمار والصراع والقتل والتعذيب فقط، وأن مشاعر الإنسان لا تقتصر على الأطماع الوضيعة الجشعة التي تمزق العالم وتهدد الحياة على الأرض، وأن شلة خيرة من البشر قد انتجت يوما الكثير من الفرح والسمو، لنرتوي منه ونتخيل العالم الأجمل الذي ينادينا من وراء الغيب ويدعونا إلى بنائه على أنقاض عالم مصاصي الدماء الذين يلبسون الأربطة ويتقنون الإبتسامات واللعب باليورانيوم المنضب وقنابل الفوسفور الأبيض، الذي نعيشه اليوم. هذا هو النصف الأول من رحلة حضارية، فيها القليل من النصوص، والأكثر من الروابط التي ندعوا إلى الإستماع إليها أو مشاهدتها، ليقضي المسافر معنا فيها وقتاً أطول وأكثر استرخاءاً، وشحناً لبطارية النفس المتعبة.

 

لقد تركت النص قصيراً لتشجيع القارئ على النقر على الروابط والتمتع بموادها حيث أنها هي المحتوى الحقيقي لقيمة هذه المقالة. لقد أشرت الروابط المهمة بنجمة * إضافة إلى رقمها الخاص، ولذلك "أقترح بالحاح" عدم تجاوز الروابط المشار إليها والذهاب إليها فور وصول النص إلى نقطتها، ثم العودة إلى حيث ترك النص بمساعدة الرقم الخاص بالرابط.. رحلة ممتعة.

 

****

 

سنتعرف في هذه الرحلة القصيرة على ثلاثة أشكال أساسية من الموسيقى، حيث سنبدأ باللحن المفرد أو الميلودي، ثم نتحدث عن المصاحبة المتوافقة أو ألهارموني وأخيراً سوف "نرى"- في الجزء الثاني من هذه الرحلة - شكل "الكونتر بوينت" ومثاله الأكثر شهرة "الفيوغ" والذي كان ومازال يعتبر قمة الموسيقى الكلاسيكية جمالا وصعوبة، وسوف نستعين على "رؤيته" بتقنيات فنية حديثة تتيح لنا أن نستخدم عيننا فيما قد تعجز أذننا عن متابعته لوحدها من زوايا وتفاصيل ذلك الفن. نتمنى لكم إذن رحلة مفيدة، وممتعة جداً.

 

الميلودي

 

اللحن الموسيقي المفرد، او "الميلودي" يتكون من سلسلة من النغمات الموسيقية المتتابعة وفق إيقاع ثابت غالباً هو الشكل الأبسط للموسيقى. ولعله أيضاً الشكل الموسيقي الأقدم. وقد بدأ الإنسان الموسيقى بآلات الإيقاع ومنها الخشب والطبول وكذلك الرقص. لكن اللحن الميلودي قديم جداً أيضاً كما يبدو، حيث اكتشفت أن إنسان النياندرتال كان يتمتع بعزف الناي المصنوع من العظم قبل 41 الف عام!(1)

 

 

ولدينا في منطقتنا، أم الحضارات القديمة، آثار أقدم أغنية ملحنة في التاريخ اكتشفتها في سوريا عالمة بالآثار الآشورية في منطقة "راس الشمه"!(2)*

ويحتوي الرقم الطيني المسجل بالكتابة المسمارية، والذي يعود إلى حوالي 1400 عام قبل الميلاد، على كلمات أغنية لزوجة إله القمر، "نيكال". كما يحتوي الرقم الطيني على تعليمات حول كيفية أداء الأغنية ومصاحبة القيثارة وكذلك طريقة نصب القيثارة! ومن هذه المعلومات تمكنت الباحثة من الوصول إلى لحن الأغنية ويمكننا اليوم بفضل جهودها التي استمرت 15 عاماً، أن نستمع إليه وأن نتصل موسيقياً بإنسان عاش على هذه الأرض قبل 3400 عام! !(3)*

 

الهارموني أو التوافق

 

إذن النغمات المتتابعة هي الميلودي، أو اللحن، أما النغمات التي تعزف معاً فتكون ما يسمى "الهارموني" أو التوافق. !(4)

والهارموني هو ما نسمعه عادة من الآلة المصاحبة للغناء، مثل الكيتار عندما يعزف "الكوردات" مصاحباً المغني. وقد عرف اليونانيين الأصوات المتناغمة او المتوافقة واعتبر فلاسفتهم أن الإستماع إلى أكثر من آلة واحدة أو أكثر من لحن في نفس الوقت من التمارين الذهنية المهمة للإنسان المتحضر.

 

ويتم اختيار نغمتين أو أكثر من نغمات السلم الموسيقي، يكون بين ذبذباتها توافق أحست به الأذن البشرية قبل آلاف السنين واستعمله الإنسان ليتمتع به، دون أن يعرف سره، والذي كشفته التكنولوجيا الحديثة، حيث تبين أن بين ذبذبات النغمات المتوافقة دائماً علاقة نسبة حسابية بسيطة، وكل ما كانت النسبة أبسط كان التوافق أشد، فبين الرقمين 1 و 2 علاقة الأوكتاف التامة الهارمونية والعلاقة بين ذبذبتي النغمتين الأولى والخامسة (ثاني أقوى هارموني) هي 2 إلى 3 وهكذا...أما العلاقة بين النغمات غير المتوافقة فتكون معقدة.

ولكي نأخذ فكرة واضحة عن المقصود بلحنين متوافقين معاً، يمكننأ ان نستمع إلى هذا التمرين القصير من إحدى الأغاني الغربية الجميلة. ويمكن استعمال هذا الفيديو أيضا والفيديوات المشابهة للتمرن على الغناء الهارموني، أو لمجرد التعرف على الهارموني والإنتباه له في المرات القادمة التي قد نستمع إليه فيها، لنقدر جماليته بشكل أفضل. !(5)*

 

نحن العرب لم نتمتع بتذوق الكثير من الهارموني، فالهارموني فقير جداً في الموسيقى العربية واستعماله مقصور على حالات بدائية، حيث تقوم الآلات كلها بعزف نفس النغمة الميلودية (أو مضاعفاتها، وهو ما لا يعتبر عملا موسيقياً هارمونياً حقاً). وتلعب طبيعة تلك الموسيقى دوراً في هذا النقص كما يلعب تاريخ الموسيقى العربية بلا شك دوره أيضاً. فمن المعروف أن الهارموني الحديث في الموسيقى الغربية قد تطور من غناء الكورال الكنائسي الذي يشارك فيه عدد من الرجال والنساء، وكان من الطبيعي أن يتم الإتجاه إلى الهارموني لتأمين الإنسجام بين تلك الأصوات. وقد حاول البعض إيجاد طريقة لإدخال الهارموني إلى الموسيقى العربية، دون تغيير الطابع الخاص بها، دون نجاح يذكر.

 

ويعود إسم "الهارموني" إلى اللغة الإغريقية وتعني "التوافق" او "الترابط"، حيث اشتهرت الحضارة اليونانية به. لكن آثاراً أكثر قدما بكثير تعود إلى الحضارتين الآشورية والمصرية، وأقدم منها إلى الحضارة السومرية تؤكد أن اختراع الهارموني مثل الكثير غيره من إنجازات الحضارة البشرية، يعود إلى الحضارات التي تواجدت على هذه الأرض.

ونلاحظ أن القيثارة كانت من أقدم الآلات الموسيقية المتطورة ربما تكون قد نشأت في أرض سومر، حيث صمدت قيثارتنا الذهبية ، قيثارة أور، 4500 عام حتى وضع الأمريكان أقدامهم على هذه الأرض فحطموها من بين ما حطموا في هذه البلاد.

 

 

 

 

وقد قام بعض المهتمين بإعادة بناء نموذج لها من مواد كانت تستعمل في ذلك الزمن وبتلك المواصفات!(6) وقد جمعت التبرعات من أجل ذلك من معجبين من مختلف انحاء العالم وتم إنجازها بمساعدة أمهر الصناع في العالم. ويقول أندي لوينغز: "نحن نعزف الحاننا حول العالم ونحكي كيف اعدنا صناعة القيثارة، وكذلك عن التاريخ العراقي القديم".. وهذا وغيره يوجب علينا أن نفرق بين الإنسان الغربي عموماً وحكوماته المحكومة بالوحوش البشرية- حسناً..لن نتكلم أكثر في السياسة!

 

لكن ما علاقة القيثارة ببرهان قدم الهارموني؟ فكرتي الأولى هي أن طبيعة القيثارة لابد أن تدفع بالعازف إلى اكتشاف العزف الهارموني ولو بالصدفة. (قارنها مع الربابة ذات الوتر الواحد مثلاً!) فأوتار القيثارة تستمر في اهتزازها ولا مفر من أن تختلط نغمات كل وتر مع الأوتار التالية في اللحن، ما لم يتم إيقافها عن الإهتزاز عمداً، وبالتالي فلا شك أن ذلك كان حافزاً على اكتشاف الإمكانيات الهارمونية للموسيقى، والبحث عن إمكانية عزف وترين في نفس الوقت لإنتاج صوت جميل، وإن لم يكن ذلك ممكناً، فلا شك أن العازف سيجرب أن يغير شد بعض الأوتار لإنتاج مثل هذا الثنائي المريح للإذن، ولا مفر من ان يقع بالتالي على النسب الصحيحة التي تكون الهارموني. روبرت فينك يبحث الموضوع من جانب غير الذي أطرحه هنا، فيلاحظ أن يدي العازف التي رسمت أو نحتت في الآثار القديمة التي تصور عزف القيثارة، تبتعدان عن بعضهما البعض بمسافات أكبر مما هو متوقع لو كان العزف للحن ميلودي مفرد، حيث تكون المسافة اللحنية بين معظم الأنغام المتتالية صغيرة، وبالتالي تقع على أوتار متقاربة. واعتبر بعد اليدين عن بعضهما ووضع الأصابع على أوتار متباعدة، مؤشراً قوياً على أن نغمتين هارمونيتين كانتا تعزفان معاً! (أنظر الصور في أسفل الصفحة على الرابط التالي). (7)*

كما تشير آثار أخرى إلى أن نظام السلم الموسيقي في سومر وبابل كان مشابهاً للسلم الحديث، وأن الرقم الطينية التي تشرحه وتشرح عملية شد أو نصب الأوتار، تعطي إهتماماً خاصاً بمسافات موسيقية خاصة هي الخامسة (أهم الهارمونيات في السلم الحديث) وكذلك الرابعة والثالثة،.. !

في الحلقة الثانية سوف ننتقل من الهارموني الذي يتكون من لحن أساسي ومصاحبة ثانوية تحرك نفسها حسبما يقتضي توافقها مع اللحن الأساسي، إلى موسيقى "الكونتر بوينت" التي تتألف من عدد من الألحان المتساوية الأهمية فيما بينها وتتفاعل في القطعة الموسيقية بشكل لا يبدو أنه يحد من حريتها، وتصبح حتى متابعة الألحان المختلفة قضية تحتاج إلى تركيز كبير، فكيف إذن بتأليفها؟ ورغم ذلك تبقى الألحان متوافقة! أهم من ذلك كله أننا سوف لن نركز على النص المكتوب، بل سنقوم بمساعدة فيديوات فنية رائعة برحلة هدفها "رؤية" تلك الموسيقى الرائعة بتعقيدها بأعيننا حينما تعجز آذاننا عن متابعتها لوحدها بكل تفاصيلها الفنية وتعقيداتها الجمالية الرائعة. .

تنبيه صغير أخير فقط، اننا سنحتاج إلى سماعات جيدة لمتابعة الجزء الثاني. وربما تكفي سماعات أذن متوسطة الجودة لكن لن تكفي سماعات الحاسبات المعتادة لمتابعة بعض الأجزاء الواطئة الذبذبة من القطع الموسيقية التي سنتابعها في الجزء الثاني، وهي أساسية تماماً لفهم الموضوع والتمتع به..


(1) Divje Babe Flute - Wikipedia, the free encyclopedia

http://en.wikipedia.org/wiki/Divje_Babe_Flute

(2) The Oldest Song In The World
http://www.amaranthpublishing.com/hurrian.htm

(3) استمع إلى أقدم أغنية محفوظة في التاريخ

http://www.greenwych.ca/kil_hymn.mp3

(4) Harmony - Wikipedia, the free encyclopedia
http://en.wikipedia.org/wiki/Harmony

(5) How to sing The Sound Of Silence Simon & Garfunkel

https://www.youtube.com/watch?v=HDFk3HcvX-I

(6) Lyre of Ur - Welcome

http://www.lyre-of-ur.com

(7) Evidence of Harmony in Ancient Music; Archaeology & Oldest Song

http://www.greenwych.ca/evidence.htm