شاهدت ليلة أمس, كتلميذ في صف, الفلم الذي يحكي عن قصة المصالحة في جنوب أفريقيا ودور الزعيم نلسون منديلا في تحقيقها, والفلم كان من تمثيل مورجان فريمان وإخراج كلنت ستيورات, وكلاهما من الفائزين بالأوسكار. من يطلع على الجرائم التي إرتكبها النظام العنصري في جنوب أفريقيا سوف يظن أن قصة المصالحة المانديلية هي من وحي الخيال, فثمة تاريخ إذا أمكن الوقوف أمامه فسوف تتجلى أمامنا حقيقة أن الأقدار تصنع الرجال الذين يصنعونها. وما كان مانديلا بعيدا عن عملية الخلق هذه, لقد وضعته الأقدار في مواجهة ظروف قاسية جدا, وكأنها تصنعه حينها, لغرض أن يصنعها بعد ذلك. ففي السجن الذي مكث فيه سبعة وعشرون عاما كان جابه أشد أنواع الإمتهانات التي يتعرض لها الإنسان بينما عاش وابناء وطنه السود حياة لا تطاق وخضع إلى قوانين شكلت عارا في جبين المجتمعات التي جاء منها المستوطنون البيض. وتجعلنا العودة إلى تاريخ ما قبل المصالحة المانديلية نعتقد أن جنوب أفريقيا كان مرشحا لحروب إنتقامية تبدأ ولا تنتهي, وكان مقدرا لمواطنيها البيض أن ينتهوا أما قتلى وأما مهجرين ومطرودين وملعونين أبدا. لكن مانديلا, الذي صنعته الأقدار ثم عاد ليصنعها, عرف أن هناك طريقا جميلا للإنتقام هي غير تلك التي تدعو لها ثقافة (السن بالسن والبادئ أظلم) وإنما تلك التي تدعو إليها ثقافة (عفا الله عما سلف), فإختار من الإنتقام جميله, واضعا في يد الأسود إرادة صنع التاريخ الجديد بنفسه وجعل الأبيض ينحني إحتراما وإعجابا لقلب الأسود الأبيض. ذلك أن ألوان الناس الحقيقية لا تحددها بشرة الجلد وإنما يحددها لون القلوب وصفاء الروح. صحيح أن التجربة العراقية هي تجربة خاصة بزمانها ومكانها ومصانعها, لكننا نعلم أن هناك بعدا إنسانيا واحدا تنتهي إليه كل التجارب الخاصة, ولولا ذلك لما جاءت الديانات المتفرقة مستهدفة الوصول إلى خالق واحد. وإن كل ما يقال حول التجربة العراقية, وإدعاء أن خاصها يطغى على العام الإنساني المشترك, ليجعلها فريدة وعصية على التقليد والمحاكاة, هو كذب يراد منه تحقيق أغراض دنئية ليس فيها مصلحة المظلوم نفسه. إن فرق التجربة التجربة العراقية عن التجربة الجنوب أفريقية لا يكمن في أيهما كان الأشد إيلاما وإنما في نوع الرجال التي صنعتهم الأقدار من أجل أن يصنعوها. لقد كان لديهم مانديلا ممثلا عن .. سود الوجوه بيض القلوب. أما نحن فقد كان لدينا عامر الخزاعي ممثلا عن .. بيض الوجوه سود القلوب. هؤلاء عرفوا كيف يحولون المظلوم إلى ظالم مثلما عرفوا كيف يبعثون في المجتمع أسوء ما فيه, على عكس ما فعله مانديلا, أن يبعث في المجتمع أفضل ما فيه, حتى ولو كان بقيا من رماد, وأن يحول المظلوم إلى صانع حقيقي للتاريخ يوم أفلح في تمكينه على رؤية قلبه الأبيض. أما رامسفيلد, وأما بوش الصغير, فلقد عملا جهدهما على ان لا تكون الراية بيد منديلا عراقي, فنبشوا كل فحرصوا على أن يأتي الحل أشد ضررا من المشكلة. وهم كانوا يعلمون تماما أن الفرق بين التجارب يكمن في نوعية الرجال وليس في حدة التجارب ذاتها. لذلك كانوا حريصين على أن يكون الإنتقام العراقي بشعا وقبيحا ومفتوحا ويبدأ من الإتيان برجال من بيض الوجوه سود القلوب. وهو إنتقام كان واضحا منذ البدء أنه سيأكل من الجميع, بشرا ووطن.
|