ثقافتنا الغائبة او مثقفنا الغائب؟!

 

"الكتابة أيًا كانت هي الفصل بين العالم القديم والعالم الجديد، وعندنا العالم الجديد هو قديم، قابل للتدمير، وعلى الرغم من ذلك يبقى واقفًا على قدميه، لمعجزات كثيرة أهمها المعجزات الدينية" – د. افنان القاسم

هل واقع مجتمعنا يتماثل مع أحلامنا الابداعية ؟ هل استطاعت ثقافتنا ان تفرض حلمها الأخلاقي التنويري على مجتمعنا؟ هل مثقفينا جادون في تطبيق رؤيتهم ، ام صارت الثقافة تسلية وألقاب تُلحق ببعض الأسماء؟هل من دور للمثقف في واقعنا الاجتماعي؟ هل من حركة ثقافية تتمرد وترفض الواقع المفروض من قوى انتهازية وماضوية على مجتمعنا؟ لماذا هذا الاستسلام المخجل امام الفكر الغيبي والعجائبي والانتهازي؟ هل استطعنا كمبدعين ان نتحول الى الصوت المعبر عن واقعنا والمؤثر على صيرورتنا الفكرية؟هل يمكن ان تتطور ثقافة متنورة في ظل واقع فكري وثقافي ماضويته اقوى من تنوره، حتى لو ظهر ممثلوه بأحدث طراز أوروبي ثيابا وسيارات؟

أعرف ان كلامي يثير غضب الكثيرين، لكني لست ممن يكتبون أو يتحدثون من أجل رفع أسهمهم، أو لأحصل على شهادات ايجابية من بعض المتثاقفين وبعضهم "أدباء كبار" كما يصرون على وصف انفسهم وكأن صيغة "أديب الكبير" الملحقة باسمائهم هي ضمن اسم العائلة بهويتهم (خاصة الاسرائيلية في حالتنا)، وكل انجازاتهم انهم ضاعفوا احباط ثقافتنا.. ويساهم في هذه الهرطقة الأدبية ما يسمى اعتباطا في ثقافتنا ب "النقد الأدبي". لكني لا افهم ضرورة النقد اذا فصل عن الرؤية الفلسفية العامة للمجتمع والإنسان .

اين هو النقد ؟ اين هي الدراسات الأدبية والفكرية الجادة؟ اين هي المفاهيم الفكرية لجذور ثقافة النقد؟ هل النقد مجرد مدائح بلا شطئان وكأننا نشجع فريق رياضيا في ملعب لكرة القدم؟

لا تنظروا الي باستهجان، فانا اعترف اني لست ناقدا بل "عارضا ثقافيا" ( كما وصفني الأديب والناقد د.افنان القاسم، فوفر علي تفسير كتاباتي الثقافية) دخلت هذا الملعب عنوة تحديا للتجاهل الذي كان حصتنا انا وابناء جيلي لحساب جيل فرض سطوته الثقافية (والسياسية) المطلقة على حلقة ضيقة من الأتباع...مرتكبا بذلك جريمة أدبية بحق ادبنا وادبائنا.

لا اريد ان اكون "مقياسا نقديا" له طوله وعرضه المعروف والثابت في "حلقة الذكر" النقدية، نقد يصح وصفه بأنه "مديح وإعجاب مع سبق الإصرار والترصد" أو "نقدا عشائريا " بمفهوم ما.

أعرف ان تمردي الثقافي يجد دعما وتأييدا من الأكثرية الصامتة والمتألمة لحالتنا الثقافية، اتلقى ملاحظات ايجابية، لكني أريد صوتهم المدوي المتمرد وان يوقفوا الهرب من المواجهة التي لن تظل مواجهة ثقافية كما يبررون صمتهم، من تجربتي أعرف أنهم صادقون ولكني لا اقبل موقفهم الصامت... صمتهم يترك الساحة للاختلال الثقافي. 


لا أقبل الصمت من أي مبدع أو صاحب رأي، المثقف الصامت هو ليس مثقفا. المثقف هو المرتبط عضويا بقضايا مجتمعه، الثقافة تحتل حيزا كبيرا وأساسيا في صيرورة المجتمع البشري. ليس بمفهومها الأدبي الضيق فقط، انما بمفهومها الشامل لكل ما ينتجه الإنسان من خيرات مادية أيضا.. او ما يسمى ب: "الحضارة"!!

نحن نهرب من الحضارة بدل ان نشد الخطى اليها نترك الميدان للقديم المدمر ولا نتقدم نحو الجديد الناهض.

الذي اريد ان أقوله باختصار بعد هذا العرض الاستفزازي مع معرفة ، ان حياتنا الثقافية تفتقد للفعل الثقافي. نفتقد لحياة ثقافية نشطة ولحركة ثقافية قادرة على التأثير، حركة لها كيان وصوت وقرار. 


تابعت في الأشهر الأخيرة نشاطات ثقافية عدة لم تزدني تفاؤلا بقدر ما أشعرتني بعمق أزمتنا. على رأس هذه الأزمة اندماج العديدين من أصحاب القلم والرأي الثقافي والفكري بالتحايل الثقافي بعيدا عن النقد الثقافي، أو ببساطة جارحة بالتزوير الثقافي، متناسين أن صفة المثقف التي يلتصقون بها لا تكتمل بدون الاستقامة الشخصية والمصداقية الثقافية. 
ان غياب المصداقية من فعلنا الثقافي له إسقاطات سلبية ، آنية وعلى المدى البعيد على تطور حركتنا الثقافية وجعلها حركة فكرية، اجتماعية وسياسية لها صوتها المسموع والمؤثر.


هل نتجاهل ان صوت المثقف في مجتمع حضاري أقوى من البنادق في التأثير على الرأي العام؟


للأسف هذه ليست حالنا .. هنا في المجتمع العربي داخل اسرائيل او في العالم العربي. حقا بعض المثقفين العرب باتوا يشكلون خطرا على أمن "الفساد الحاكم" أو " الحكم الفاسد " (ما الفرق ؟). المثقفون يحاكمون ويدانون آخرهم الكاتبة والشاعرة المصرية فاطمة ناعوت، لأن مقالا كتبته تسخر فيه من مجزرة الخراف في الأعياد، اعتبرته الهيئات الدينية اهانة للدين"؟!!" المثقفون يسجنون، يقتلون ، يتعرضون لسيف الإرهاب ألسلطوي والديني الغيبي .. لكن المستهجن هو الهزيمة العميقة للمجتمع العربي. لم اسمع الا نادرا اصواتا ترفض الهزيمة ، لكنها خارج أوطانها. الأدباء العرب لا يتحركون لوقف هزيمة مجتمعهم، هل هو امتداد للهزيمة بفكرهم؟

نعم انه اشارة لمجتمع مهزوم وادباء مهزومون!!


ما قيمة الثقافة اذا لم تحدث حركة اجتماعية ؟ .. حركة فكرية ؟..حركة تمرد سياسية ثقافية؟ نقدا صريحا .. نقاشا ... حوارا .. تعدد آراء .. تعدد أذواق .. تعدد مفاهيم .. تعدد تجارب وتعدد تحديات ؟

هناك اصوات تبرز بين فينة وأخرى، لكنها شبه معزولة. بدل ان يلتف حولها المثقفين تترك لتحكم الاستبداد الديني، حليف السلطة السياسية المستبدة أيضا.


ما قيمة المثقف اذا كان ما يكتبه يذهب للدفن بلا مراسيم ، وبدون فتح ديوان للتعازي ؟ ما قيمة الكتابة اذا "ولدت ميتة " على صفحات وسائل الإعلام، وكل أثرها أنها تعبئ فراغا ..؟

في مقال جريء كتبه الأديب ، الناقد والمحاضر الجامعي د.افنان القاسم تحت عنوان "ملاحظات بلا غضب حول أدب العرب" جاء: الكتابة أيًا كانت هي الفصل بين العالم القديم والعالم الجديد، وعندنا العالم الجديد هو قديم، قابل للتدمير، وعلى الرغم من ذلك يبقى واقفًا على قدميه، لمعجزات كثيرة أهمها المعجزات الدينية، معجزات تنتمي إلى الخيال العلمي للعصر الحديدي، اجتاحت حدود اللغة، وحالت دون حق اختيار الكاتب للاحدوده!!


من هنا رؤيتي ايضا لواقع أزمة ثقافتنا العربية في اسرائيل ، بوجود قطيعة شبه كاملة في العلاقات بين حياتنا الثقافية والفكرية من جهة ، وبين القارئ والمجتمع الذي يدعي الكثيرون انهم يمثلوه في ابداعهم ونصوصهم المختلفة. ما يزيد أزمتنا غياب واسع للثقافة النقدية، لكن من تجربتي أعرف ان مجتمعنا متعطش للصدق مهما كان مؤلما .. متعطش للنقد بكل مجالاته وامتداداته.


نحن مجتمع متهم أيضا انه لا يعطي للمثقفين دورا ، ومعروف ان أصحاب الأدوار وصلوا بدون وجه حق وفي غفلة من الزمن، عبر تسلق أجسام سياسية، وهم بالكاد يمثلون رأيا يستحق الإجماع أو الإنصات إليه . أصحاب الأدوار الاجتماعية أو السياسية بحالة انقطاع متواصلة عن الفكر الثقافي، تشغلهم مكانتهم حتى حولوا مفهوم القائد الى مفهوم شخصاني ومفهوم الأديب إلى مفهوم وظيفي. 


من المؤسف أن الثقافة في حياتنا لا تشكل الا بندا غير قابل للتنفيذ في أجندة المؤسسات والأحزاب، وهي نتيجة تلقائية الرؤية التي ينطلق منها أصحاب المؤسسات والأحزاب، لا أستثني أحدا ، بغالبيتهم لا يرون أهمية الدور الاجتماعي والحضاري للثقافة ، أهمية دورها التربوي ، قيمتها في النضال الاجتماعي والسياسي ، ودورها في صيرورة إنسان المستقبل وتشكيل عالمه الفكري. 


الأدب والثقافة لهما وظيفة اجتماعية ، ومهمة انسانية عامة . عبر الإبداع الأدبي أنت تقوم بنشاط جديد . نشاط لذاتك، نشاط لمجتمعك، نشاط للعالم الخارجي حولك ونشاط للعالم الأكثر اتساعا من رقعتك المحدودة جغرافيا. قد يشكل الإبداع ولادة حقيقية جديدة للمبدع ، نقلة نوعية فكرا، موقفا وإبداعا.


الإبداع هو فعل هادف منظم ومسؤول نحو هدف. ادوات المبدع هنا هي اللغة والفكر، لكن اللغة لوحدها ليست هي الهدف، كما لاحظت في كتابات كثيرة. لا شك ان استعمال اللغة ومفرداتها هو فن بحد ذاته ويضفي على الإبداع الحقيقي جماليات خاصة تعمق قيمة الإبداع وأثره. 
الانسان الذي لا يملك هدفا في الحياة ، هو بنفس الوقت لا يملك مشروعا ثقافيا ، حتى لو كان أستاذا في علم اللغويات. 


يقتضي ان يكون للأديب أو المثقف مشروع حياة يرتبط بقضايا مجتمعه وعالمه.
ما هو العالم الذي يريد ان يعيش فيه ؟ هل يريده مجتمعا مغلقا أم مجتمعا مفتوحا؟ مجتمعا حرا أم مجتمعا خاضعا؟ مجتمعا يكفل حقوق الإنسان أم يميز بين البشر؟


لا يمكن نفي ذاتية المبدع ، خصوصياته... ولزوم تطويره لآفاق أكثر اتساعا في تفكيره وقدرته على التأثير . 


أفتقد في الأكثرية المطلقة مما ينشر من إبداعات شعرية أو قصصية ، من نقد أدبي ومحاورات فكرية وثقافية... وحتى من مقالات ومواقف سياسية المواضيع والأفكار التي ترفض الهزيمة، تتبنى التمرد. تطرح التغيير والتجديد. تنظر الى مستقبل بعقل متحرر.

 
ان ما نحتاجه ليس المثقف الخامل ، الباحث عن المصفقين .. انما المثقف النقدي ، المثقف الذي ينقد ذاته وتجربته ،وان يكون ارتباطه الأساسي مع الثقافة بمفهومها الكوني وليس القبلي العشائري أو القومي المتعصب. ان يكون مثقفا متحررا من التبعية أي كان نوعها وشكلها الفكري او السياسي أو الاجتماعي.